الرئيسية / أقلام الحقيقة / الدكتور عبد الصمد الديالمي.. نحو إسلام علماني

الدكتور عبد الصمد الديالمي.. نحو إسلام علماني

أقلام الحقيقة الوجه الاخر قصاصات
مـــــريــــة مــــكريـــم 08 يوليو 2016 - 12:13
A+ / A-

– الكثير ينتظر الجواب…الكثير من الزملاء أوحوا إلي بالاستراتيجيات التي ينبغي نهجها للردعلى الفقهاء…الكثير ينتظر استئناف “المباراة” بين عالم اجتماع وفقهاء. تعجبت كثيرا لموقف المثقفين هذا، إذ عوض أن يشارك كل مثقف بقلمه وآراءه في هذا النقاش الفكري الهام، أحسست أن مساندة المثقفين العلمانيين لمواقفي العلمانية لن تجد لنفسها الشجاعة الكافية للتعبير عن نفسها صراحة. أحسست أن المثقف العلماني يكتفي بالقول أن المثقف عليه أن يكون نقديا دون أن يمارس فعلا ذلك النقد الذي يطالب به نفسه، خصوصا عند ما يتعلق الأمر بالإسلام. طغيان الحسابات، مصالح شخصية ورهانات أقوى من واجب النقد. هل الإسلام هو السقف الذي يقف عنده حس النقد عند المثقف المغربي؟ مرة أخرى، أحس بالوحدة…
– أود أن أقول كذلك أن عناوين الحوار الذي أجرته “الأحداث المغربية” من وضع الجريدة، بمعنى أن “الأحداث المغربية” هي التي انتقت تلك الجمل من الحوار وحولتها إلى عناوين بارزة. وأعتقد أن هذا من حقها ويعكس ما بدا لها أكثر أهمية في الحوار. وتعجبت شخصيا لعدم إبراز أية جملة تتعلق بالجنس أو السيدا أو النسائية أو الحركات الأصولية مع العلم أنها المواضيع التي أساهم بكل تواضع في تأسيسها وتوحيدها في نفس الحركة المعرفية…كان تحويل الفكرة القائلة بأن “لا اجتهاد مع النص ليس آية قرآنية…” إلى عنوان ضخم في الصفحة الأولى مناسبة للتأكد من قوة “الأحداث المغربية” كجريدة يومية. فقد سبق لي أن اقترحت نفس الفكرة في مناسبتين : الأولى سنة 1987 في كتابي “المعرفة والجنس” والثانية سنة 1991في مقالتي “في العقل الجنسي المغاربي” دون أن يؤدي ذلك إلى ردود فعل تذكر، الشيء الذي يدل إما على عدم اهتمام الفقهاء بالأبحاث في سوسيولوجيا الفقه، وإما على الاقتناع بعدم “خطورة” الاقتراح نظرا لمحدودية انتشاره عبر الكتاب والمجلة. إن نشر اقتراح الاجتهاد ضد قاعدة الاجتهاد التقليدية على صفحات جريدة “الأحداث المغربية” اليومية هو الذي جعله يثير قلق الفقيه، فالجريدة اليومية تخاطب بالفعل جمهورا أوسع لم يتعود على وضع الفقه وأصوله أمام السؤال السوسيولوجي. هل يدل الرد-فعل الفقهي على إرادة الإبقاء على الخلط الشعبي بين الفقه والمقدس؟ إن تدبير الفقه للمقدس في بعده التشريعي لا يعني أن الفقه مقدس في ذاته، إنه مجرد ممارسة معرفية تسعى إلى استنباط معايير السلوك الفردي من النص المقدس. ومن المشروع جدا أن نساءل الفقيه عن كيفية تدبيره للفعل التشريعي وأن نساءل الفعل الفقهي عن شروطه الاجتماعية.
-المقدمة الثالثة تتعلق بتدخل عالم الاجتماع في الدين وفي دراسته. إن تدخل عالم غير فقيه (بالمعنى الاصطلاحي) في الدين لا يعني أنه عالم غير متخصص، إذ أن الدين أحد مواضيع علمي الاجتماع والتاريخ (على الأقل).ومن ثم لا يمكن اتهام العالم في سوسيولوجيا الدين بالجهل، إنه فقيه (بالمعنى اللغوي) في الدين. لكن السؤال الأهم الذي يطرح هنا هو: لماذا يقود اقتراح أطروحات غير مألوفة إلى التشكيك في إيمان صاحبها؟ لماذا لا نتساءل عن دور الإيمان في الفعل المعرفي إلا عند ما يتعلق البحث بالإسلام؟ هل ينبغي أن يدفع الإيمان بالباحث المسلم إلى الدفاع الأعمى عن الإسلام ضد الموضوعية العلمية؟ ألن يضعف دفاع الباحث اللامشروط عن الإسلام من قوة القول ومن صورة الإسلام؟ إن التشكيك في إيمان الباحث العلماني أو اتهامه اللامبرر بالجهل ردود معتادة عند الفقيه (يطمئن بها نفسه) وآليات دفاعية يوظفها لتحويل الحوار العلمي إلى تفتيش ومحاكمة وللاستحواذ المعرفي على الحقل الديني. آليات تعبر عن إرادة سلطة، وهذا أمر طبيعي في نهاية التحليل بالنظر إلى إمكان تعريف الفقيه كخليفة في قاعة انتظار. ففي مقابل ثنائية الفيلسوف-الملك عند الفيلسوف، هناك ثنائية الفقيه-الخليفة عند الفقيه، وكلاهما ظل في قاعة انتظار على مر التاريخ.
– بعد الإقرار بأن النص القرآني نص سماوي فوق كل علم وضعي، لابد من الاعتراف لعالم الاجتماع بالحق في معالجة الدين، أي مجموع القراءات الإسلامية للقرآن، كموضوع معرفة وضعية. الفعل السوسيولوجي يجعل من الإسلام مجموع القراءات التاريخية للقرآن، ويرى في السلوكات الدينية مرآة للأصول والشروط الاجتماعية. أسئلة “هل أنت مؤمن؟، هل تصلي؟ هل تصوم…؟ أسئلة من اختصاص عالم الاجتماع ويطلب منه أن يطرحها على المواطن في المجتمع الديمقراطي، لا من أجل التفتيش والتكفير، بل من أجل تنوير وترشيد صنع القرار الديني أو السياسي. إذا اعتبرنا الإيمان والوحي (بالمعنى الاصطلاحي أي كتنزيل للقرآن) أمورا ما فوق عقلية خارجة عن نطاق المعرفة العلمية، فإنه من الواجب على العكس من ذلك أن ندرك في الإسلام، أي فيما نستخرجه من القرآن قصد تنظيم المجتمع وتهذيب الفرد، ظاهرة اجتماعية كلية تتكون من جوانب متعددة : مذهبية، حركية ومؤسساتية. تلك الجوانب ظواهر فقهية، فلسفية وتصوفية، أي تاريخية وجغرافية، اقتصادية وثقافية، حضارية ونفسية…بهذا المعنى، يشكل الإسلام مجموعة من ظواهر نسبية، عرضية بالمعنى الأرسطي وحتمية كتاريخ… ومن ثم يشكل الإسلام، ككل دين، موضوعا للعلوم الوضعية، الإنسانية منها والاجتماعية على وجه الخصوص (تاريخ الأديان، سوسيولوجيا الدين…). ارتحت جدا عند اعتراف المؤتمر الإسلامي الثاني لوزراء الثقافة (12 – 14 نوفمبر 1998 بالرباط) بضرورة “إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بما ينبغي الالتزام من الصدق والنزاهة تحقيقا للحق…”. وأنتظر اليوم الذي تعترف فيه مؤسسة إسلامية بضرورة سوسيولوجيا الإسلام كذلك. إن تدخل عالم الاجتماع يبحث في السؤال “كيف هو تدين الناس؟ وهو سؤال ليس بالجديد في المغرب إذا أخذنا بعين الاعتبار كل التراكم الأنتربو-سوسيولوجي حول الطرق الدينية. أما تدخل الفقيه فتدخل تصحيحي معياري يبحث فيما يجب أن يكون عليه تدين الناس انطلاقا من تدبيره الذاتي للنصوص. لا بد من الاقتناع بشيء أساسي : الله وحده يعلم الإسلام الحقيقي. وبالتالي، من حق عالم اجتماع الإسلام كذلك أن يقرأ النصوص المقدسة قصد بناء نظرية اجتماعية إسلامية تختلف عن النظريات الاجتماعية الفقهية من حيث أنها تعمل على تأسيس مجتمع إسلامي علماني وديمقراطي. في هذا الاتجاه، أصوغ الأطروحات التالية.

سبع أطروحات

الأطروحة الأولى
تكمن في ضرورة التمييز بين القرآن كنص سماوي مقدس مرجعي ثابت والإسلام كمجموع التأويلات البشرية التطبيقية للقرآن. إن السنة النبوية الشريفة أول قراءة للقرآن وأول تدبير تطبيقي له. انطلاقا من هنا، ينبغي أن يعرف الإسلام كمجموع النظم الاجتماعية-السياسية التاريخية : إسلام راشدي، إسلام عباسي، إسلام فاطمي، إسلام مغربي، إسلام إيراني، إسلام هندي، إسلام أسود… كل تلك النظم وغيرها تسعى إلى شرعنة ذاتها انطلاقا من النص القرآني. لا بد إذن من تسجيل الاختلاف، وفي الاختلاف ضرورة الحوار وقبول الآخر… “في اختلاف الأمة رحمة” معناه أن القرآن واحد والإسلام متعدد، معناه أن القرآن جوهر والإسلامات أعراض… فكل قراءة إسلامية تأويل تطبيقي وتاريخي للقرآن، وكل إسلام تطبيقي بالضرورة وعرَضا بالضرورة. كتاب الله وإسلامات المسلمين ثنائية تفرض نفسها وأعني بها أن القرآن هو الجوهر، أن العقائد والعبادات هي الثابت وأن المعاملات هي الأعراض. إن المعاملات هي المتحول الذي يسمح بالتحدث عن الإسلام في صيغة التعدد والجمع وبتعريف الإسلام كمجموع النظم الاجتماعية-التاريخية التي تجعل من القرآن مرجعيتها العليا. والمعاملات هي المؤهلة لتكون حقل الاجتهاد الملائم، أي رغم وجود النص وضد معناه الظاهر.
الأطروحة الثانية
إن سعي الفقهاء و”الاصوليين” إلى إنتاج مجتمع يكون تطبيقا ميكانيكيا للمعنى الظاهر للنص القرآني دليل على ضرورة إعادة تكوين الفقيه وتزويده بالعلوم الاجتماعية كمنظور وكمضمون حتى يتمكن من المساهمة في إنتاج إسلام ملائم. وهو سعي يؤشر كذلك على أزمة هوية. إن ضعف المسلمين الناتج عن التبعية يقود إلى الحاجة إلى تحجير الإسلام وتجميده، أي إلى تحويل قراءة نصية ظاهرية ونسبية إلى إسلام صحيح أو حقيقي يُطمئن الذات ويريحها من قلق الاجتهاد، بل ويوهم بعودة الهوية وبالعودة إليها وكأنها أصل أسطوري يعلو التاريخ…لم يعمل الفقهاء المتأخرون إلا على تحجير الإسلام وتأخيره في حين أن المطلوب هو إصلاحه.

الأطروحة الثالثة
من الضروري إنتاج تعريف إجرائي للمجتمع الإسلامي. فما هو المقصود من عبارة المجتمع الإسلامي؟ أهو المجتمع الذي تحول فيه الدولة قراءتها الخاصة للقرآن والسنة إلى إسلام رسمي وتجعل من ذلك الإسلام الرسمي دين دولة؟ أهو المجتمع الذي تفرض فيه الدولة تطبيق كل التعليمات القرآنية بدقة حسب المعنى الظاهر للنص؟ أهو المجتمع الذي يسعى إلى مراعاة مقاصد الشريعة الخمس دون التقيد الحرفي بظاهر النص القرآني، أي مع ترجيح كفة روح النص؟ هل هو المجتمع الذي يعتنق فيه الإنسان الإسلام بحرية والذي يمكن فيه للإنسان أن يتخلى عن الإسلام بحرية حتى يكون إسلام المسلم إسلاما صادقا غير مكره؟ هل هو المجتمع الذي يطلب من أفراده احترام الأركان الخمس فقط ويترك حقل المعاملات مفتوحا لاجتهاد غير مقيد سوى بمصلحة الأمة؟ هل هو المجتمع الذي يحقق أسس السلم الاجتماعي، وهي التنمية والديمقراطية، فلا يظل رقيبا على جزئيات حياة المسلم؟ إن المجتمع الإسلامي في نظري المتواضع هو المجتمع الذي يحول المسلم اللامواطن إلى المواطن المسؤول عن إسلامه الغير المحتاج لسلطة دينية تخيفه من خارج ومن فوق؟ كلها تعريفات ممكنة للمجتمع الإسلامي، والاختيار بينها لا يتأسس على الرجوع إلى النص لأن النص يشرع كل تلك الاختيارات…إن الاختيار يعود إلى الجواب على السؤال التالي : أي مجتمع إسلامي نريد؟ فالإمكانات التي ذكرنا كلها إسلامية بمعنى أنها تحققت أو قابلة للتحقق باسم القرآن، ولا يجوز قطعا أن نفاضل بينها وأن نضعها على سلم تراتبي قصد قياس أقربها إلى القرآن، فهي كلها إمكانات قرآنية.

الأطروحة الرابعة
إن الإسلامات التاريخية مراحل تاريخية ساهمت بشكل كبير في نشأة الحداثة، و لا يجوز أن نخلط بين الحداثة والغرب. صحيح أن الغرب هو المحرك الراهن للحداثة، لكن لا ينبغي للاستعمال الغربي السيئ للحداثة أن ينفرنا من الحداثة وأن يدفعنا إلى الاعتقاد الخاطئ أن الحداثة ملك له لوحده…إن الحداثة تحقيق لأسمى القيم القرآنية، إنها إسلام بين الإسلامات الممكنة. إن الحداثة، كتنمية وديمقراطية، وباعتبارها تمديدا للروح القرآنية، نازلة عارمة تجعل من الضروري فتح باب الاجتهاد بشكل جذري، يتجاوز السقف الذي وضعه الأوائل للاجتهاد. إن الخصوصية الإسلامية تمظهر جزئي للعقل الإلهي الشمولي في التاريخ…

الأطروحة الخامسة
إن إعادة النظر في أسس تدبير النصوص المرجعية أول خطوة في فتح باب الاجتهاد الملائم. عدم الاجتهاد ضد المعنى الظاهر للنص سقف كان من الضروري احترامه، لأن ما جاء به القرآن في معناه الظاهر كان كافيا لإحداث الانتقال من مجتمع قبلي إلى مجتمع دولتي يعترف مثلا بالمرأة كشخصية قانونية. إن مثل هذا الاعتراف في القرن السابع الميلادي أحدث ثورة جذرية في مكانة المرأة على صعيد التاريخ البشري عامة، فلم يكن هنالك آنذاك داعيا لتجاوز ما أتى به القرآن في تعليماته الظاهرة. فحظ المرأة من الإرث، وإن كان نصف حظ الرجل، سقف لتلك المرحلة من التطور الاجتماعي، وهو قانون نسف فعلا الأساس الاقتصادي للجاهلية كواقع قبلي وقانون جعل من القرآن مرجعية لنظام إسلامي ثوري. لكن تطور المجتمعات الإسلامية قاد حتما إلى الاجتهاد رغم وجود النص كما فعل ابن عرضون في قضية نصيب الزوجة من الإرث، وذلك بالنظر إلى تطور الأوضاع الاجتماعية للأسرة والمرأة. إن فتوى أحمد ابن عرضون القائلة بحق الأرملة أو المطلقة في نصف مال الزوج، دون شركة مسبقة، “كحق الشقا” فقط، مثال صريح على الاجتهاد مع وجود النص. وهنا لا بد من القول أن “الاجتهاد مع وجود النص” كان فعلا فقهيا استثنائيا عليه اليوم أن يتحول إلى قاعدة أصولية جديدة. وقد أخبرني زميل بالرباط،، بعد نشر حواري مع “الأحداث المغربية”، أن الشيخ يوسف القرضاوي قال مؤخرا بضرورة الاجتهاد مع وجود النص، لكنني لم أستطع بعد الحصول على هذه “الفتوى” وعلى تعليلها من طرف صاحبها. ولا أعتقد أن ذلك الزميل الفيلسوف سيكتب في هذا الاتجاه رغم قناعاته الحداثية. إن رفض الاجتهاد عند وجود النص يمكن أن يعرض الأمة إلى أخطار كارثية مثل انتشار السيدا… …وللاجتهاد معنى ثان علينا أن نعيه ونتبناه بكل وضوح، إنه المعنى الذي يبيح تعليق تطبيق النص نظرا لعدم استكمال الشروط الاجتماعية لتطبيقه… إن تعليق النص فعل مشهود…كم يبدو جليا هنا كيف أن السوسيولوجيا ضرورية للفقه، وقد كتبت في منتصف الثمانينات أننا نجد في كل فقيه عالم اجتماع راقد. واليوم، أدقق الفكرة لأقول : في كل فقيه عالم اجتماع مرقد..أما المعنى الثالث للاجتهاد فهو اعتبار “العمل” (أي العمل بالأقوال الفقهية الضعيفة والشاذة) امتدادا شرعيا غير استثنائي ينبغي الاحتفاظ به والاستمرار في إنتاجه وتطبيقه بالنظر إلى حاجيات المجتمع المتطورة…وأخيرا، يعني الاجتهاد استخدام ثنائية خصوصية السبب-عمومية اللفظ استخداما ملائما، أي إرجاع الآية إلى السياق الاجتماعي الراهن : إن الله يخاطب إنسان القرن العشرين كذلك، بل إن الله يخاطب كل عباده باستمرار (و هذا هو مدلول الوحي بالمعنى اللغوي). إن مطلب الحرية الدينية مثلا كمطلب اجتماعي راهن، ولو تعلق بأقلية، يجد تعبيره القرآني في الآية الكريمة “لا إكراه في الدين”. إن ترجيح مبدأ عمومية اللفظ هنا يمكن النص القرآني من تطبيق نفسه في إسلام ينصت إلى الواقع الاجتماعي الحديث، أي في إسلام ملائم…إن الملائمة شرط الشمولية والاستمرار، بل الحياة. إننا اليوم في حاجة إلى فهم الآية بهذا الشكل لأن الله لم يخاطب فقط إنسان القرن الأول للهجرة. لا بد من العمل بالآية “لا إكراه في الدين” في عمومية لفظها قصد تطهير الإسلام من كل من لا يؤمن حقا ومن كل من تأسلم من جراء تنشئة غير اختيارية لم يعد يتبناها عند الرشد. من أجل تخليص الإسلام الحديث من المسلم الصوري، لا يمكن العمل بحكم الردة…فكما نفرح عند اعتناق الراشد للإسلام، ينبغي أن نفرح عند ترك الراشد للإسلام إن كان غير مقتنع حتى نطهر الإسلام من كل “مسلم” مكره. إن العلمانية اعتراف للفرد بالحق في اختيار تدينه أو لا تدينه حتى يعاش التدين كمسؤولية. فالعلمانية إذن ليست دعوة إلى الإلحاد وليست إلحادا، إنها إقرار بالمساواة بين كل الأديان، إنها احترام لكل عقيدة (و لكل لا عقيدة) : العلمانية لا إكراه في الدين. من هذا المنطلق، ينبغي النظر إلى العقائد والعبادات، بصفتها عقدا حرا بين المخلوق وخالقه، كمستوي لا يطاله مطلب الاجتهاد الملائم.

الأطروحة السادسة
أسس الذكورية موجودة في القرآن والسنة، وأسس النسائية موجودة في القرآن والسنة…في الحقل الفقهي، سادت النزعة الذكورية والأمثلة كثيرة على ذلك : أولا اعتبار الطبري النساء من السفهاء في تفسيره للآية الكريمة “ولا تتركوا أموالكم للسفهاء…”، ثانيا نظر بعض فقهاء المالكية إلى عقد النكاح كعقد تمليك الزوجة للزوج…فبشكل عام، يشهد تاريخ الفقه الإسلامي على هيمنة الاختيارات الذكورية اللامساواتية. من نتائج هذه النزعة التأويلية الذكورية، تهميش المرأة من تدبير الشأن الديني العام، مما جعلها ترتمي في عبادة الأولياء. إن الولاية، كتجسد للبركة تبدو، وهي كذلك فعلا، في متناول المرأة: إنها لا تحتاج إلى المرور من التمدرس الفقهي… شيء يبين أن الفقه مطالب بربح قضية المرأة وذلك بتشبعه بالقيم النسائية التي يتضمنها القرآن ويفرضها الواقع المعاصر. إن النسائية القرآنية هي مجموع الآيات التي تدعو إلى المساواة بين الجنسين والتي ينبغي التسلح بها في فعل الاجتهاد رغم وجود النص (الذكوري). وقد تم تطوير تلك النصوص القرآنية النسائية في التصوف والفلسفة الرشدية على الخصوص. من أجل ذلك على الأقل، يفتخر الإسلام بتصوفه وفلسفته.

الأطروحة السابعة
إن تعريف الإسلام كنظم اجتماعية-سياسية تاريخية مختلفة تسعى كلها إلى شرعنة ذاتها انطلاقا من النص القرآني قول يجعل من الإسلام مرآة للمسلمين : إن الإسلام يأتي على قدر مستوى المسلمين الفكري والحضاري، فإذا ارتقى المسلمون ارتقى إسلامهم بارتقائهم، وإذا تخلفوا تخلف بتخلفهم. ومن ثم فهو قول يشرعن الدعوة إلى إصلاح الإسلام بالمعاني التالية:
– إصلاح الإسلام كتأويل ملائم للقرآن في اتجاه إجازة كل ما هو عقلاني، تنموي وديمقراطي.
– إصلاح الإسلام كمنظور : من الضروري ألا نختزل الإسلام في فقه مهلوس بثنائية الحلال-الحرام، فالفقه ما هو إلا جزء من إسلام-واقع. وبالتالي، لا بد من الاعتراف بالمكونات الأخرى للإسلام الواقع على المستويين الرمزي (فلسفة، تصوف، آداب، علوم…) والمادي (حضارة، فنون، معمار…)
– إصلاح الإسلام المؤسساتي بالإنصات إلى كافة الحركات الاجتماعية الساخنة (ومن بينها الإسلامية والنسائية على وجه الخصوص). إن الحركات الاجتماعية هي نبض التحولات الاجتماعية و مرآة للمطالب الاجتماعية. بفضل هذا الإنصات، من الممكن أن نسير نحو دمقرطة المؤسسات الإسلامية ونحو إدماج المرأة في تسييرها. ومن الممكن، بفضل مؤسسات إسلامية معقلنة أن نرى أخيرا الإسلام في كل ما هو عقلاني.

خواتم
إن المطالبة بإصلاح الإسلام دفاع عن الإسلام وغيرة عليه، بمعنى أنها مطالبة بقراءة القرآن قراءة حديثة تنطلق من انشغالاتنا وأوضاعنا الراهنة. أدعو إلى التمييز بين الدفاع عن الإسلام كدفاع وظيفي عن فقيه يدافع عن إسلام متحجر(وهو دفاع الفقيه عن مصالح وامتيازات ومواقع داخل نظام) وبين الدفاع عن الإسلام من موقع مثقف يبني دفاعه على علم محدود بالضرورة (ككل علم) وعلى ضمير نقدي مستقل عن كل خلفية لا تحدوه سوى خدمة الحق والحقيقة…قصد دفاع المثقف العلماني عن الإسلام استخراج رسالة قرآنية حديثة تدعو إلى التعدد والحوار والحرية الدينية. فالحوار بين الديانات هو أساس السلم.
إن إصلاح الإسلام كسياسة جزء من إصلاح المجتمع. ويقوم إصلاح الإسلام على تشخيص الواقع الديني تشخيصا سوسيولوجيا، وعلى ضرورة تشخيص السياسة الدينية المتبعة تشخيصا سوسيولوجيا لمعرفة مدى مسؤوليتها في تردي الإسلام المغربي. فالبحث السوسيولوجي هو الكفيل بإبراز المطلوب لسن سياسة دينية تندمج في السياسة الإصلاحية لحكومة التناوب. فمن أجل تحقيق إسلام مغربي اجتماعي-ديمقراطي، من الضروري أن نقوم ببحث وطني حول الممارسات الدينية يجيب على الأسئلة التالية : ما هي درجة التعبد؟ لماذا العزوف عن الممارسات الدينية؟ كيف ينظر المغاربة إلى السياسة الدينية المتبعة؟ ماذا ينتظر المغاربة من حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في ميدان الدين؟
إن السوسيولوجيا مرآة فاضحة ومرشدة في آن واحد، ولا بد لها أن تكتمل في الفلسفة كطريق، من بين الطرق، نحو الحكمة. لذا أود أن أنهي هذه الورقة بالمجاز الفلسفي-الصوفي التالي : إن الحياة شبيهة بجبل والمطلوب من كل فرد الوصول إلى القمة أو على الأقل محاولة الوصول إليها والاقتراب منها… إن الاقتراب ممكن عبر المرور من طرق متعددة ومختلفة وبوسائل متنوعة. الطرق متساوية من حيث الهدف… كل فرد يسعى إلى الوصول حسب طاقاته واختياراته وطريقه… المهم هو الوصول أو على الأقل السعي إلى الوصول…لا أحد يجهل ضرورة الوصول، أي ضرورة السمو والارتقاء، مهما كانت عقيدته…أو لا عقيدته…إن الله واحد، أما الطرق إليه، فمتعددة…إنها تاريخ. الأهم هو الالتقاء قريبا من القمة، وإن أمكن في القمة…حول الحق.

الدكتور عبد الصمد الديالمي
فاس، في 15 دجنبر 1998

مواقيت الصلاة

الفجر الشروق الظهر
العصر المغرب العشاء

حصاد فبراير

أحوال الطقس

رطوبة :-
ريح :-
-°
18°
20°
الأيام القادمة
الإثنين
الثلاثاء
الأربعاء
الخميس
الجمعة