الرئيسية / ثقافة و فن / نعيمة سميح… الصوت الذي جرى وجارى الزمن ولم يهزم

نعيمة سميح… الصوت الذي جرى وجارى الزمن ولم يهزم

ثقافة و فن
راوية الذهبي 08 مارس 2025 - 10:00
A+ / A-

جريت وجاريت… حتى شي ما عزيت فيك”، هكذا غنّت ذات يوم نعيمة سميح ، وكأنها تكتب وصيّتها في صمت، تلقي كلماتها في بحر الزمن، تاركة أثرًا يشبه الموج الذي لا يهدأ.

واليوم، في الثامن من مارس، بينما تحتفي الأرض بالمرأة، يطفئ القدر شمعة من أنقى الأصوات التي عرفها المغرب والعالم العربي، اليوم ترحل نعيمة سميح، لكنها لا تختفي، لأن بعض الأصوات خُلقت لتبقى، تُدفن في القلوب لا في الأرض، تُسكن الذاكرة لا تُغلق عليها الأبواب، تتردد على الألسنة كلما هاج الحنين، كأنها نشيد خالد لا يعرف الصمت.

نعيمة سميح

لم يكن أحد يتخيل أن تلك الطفلة التي كانت تركض بين أزقة درب السلطان ستصبح يومًا ما الصوت الذي يسكن المغرب، ينفذ عبر الأجيال كما ينساب الماء في السراديب، من مذياع يحمله الآباء تحت الوسائد، إلى سماعات الهواتف التي تتدلى من آذان الأبناء،  لم يكن أحد يدرك أن الفتاة التي دخلت مدرسة الحلاقة ستصبح الحلاقة الحقيقية للمشاعر، تشذّب القلوب، تمنحها لون الحنين ورائحة الشجن، وتحول الموسيقى إلى مرآة تنعكس عليها الأوجاع والأحلام.

كانت الستينات سنوات تموج بالحركة، الموسيقى تبحث عن أصوات قادرة على المزج بين الجذور والريح، بين الأصالة والتجديد، بين رائحة الطين وبريق الحداثة. عين عبد النبي الجراري لا تخطئ، وقع اختياره على فتاة خجولة، تخبّئ صوتها كمن يخشى أن يُفتضح سره، لكنه كان سرًّا أكبر من أن يظل مخفيًا.

نعيمة سميح
نعيمة سميح

ففي البداية، كان الأب حاجزًا بين ابنته والمسرح، لم يكن يثق في الأضواء، لم يكن يصدق أن الموهبة قدر لا يُقاوَم، لكنها قاومت، غلبت الزمن، كسرت الخوف، وخرجت إلى العالم. وحين جاء التصالح، كان مشروطًا، ألا تغني إلا باللهجة المغربية، ألا تمسّ إلا الكبار، ألا تخون الأغنية العصرية المغربية بلهجات مستوردة.

وإذا كان لمصر كوكبها، فللمغرب مجرته، فلم يكن صوت نعيمة صدىً لأي أحد، كان عالمًا مستقلًا بذاته، بحرًا لا يشبه سواه، شجرة تضرب جذورها عميقًا في التربة، لكنها تمد أغصانها في كل الاتجاهات.

في صوتها “بَحّة” تشبه هدير الأطلسي، ورنة تأخذ السامع من الحنين إلى الثورة، من الدمع إلى الابتسام، من الأسى إلى الاحتواء. حين غنّت “شفت الخاتم وعجبني”، لم يكن الخاتم مجرد قطعة ذهب، بل كان صوتها نفسه، الكنز الذي تتزين به الأذن، الذهب الذي لا يحتاج إلى صياغة، وحين همست “على غفلة وما قريت حسابو”، كانت تعلن أن بعض المصائر تأتي دون موعد، أن الحب مثل المجد، لا يطلب الإذن، لا يمنح إنذارًا، يأتي كالعاصفة، يقتلع، يغيّر، يترك أثره ثم يمضي.

نعيمة سميح
نعيمة سميح

لم تكن مجرد مغنية، بل ظاهرة صوتية، معادلة سحرية بين التراث والحداثة، بين النقاء والتمرد، بين الذاكرة والمستقبل. ولعل هذا ما جعلها صديقة لكل الأجيال، تعبر من الراديو إلى اليوتيوب دون أن تفقد ذرة من بريقها، تتحول من الأسطوانات إلى “الستريمينغ” دون أن ينقص إحساسها.

صوتها لم يكن تعبيرًا عن اللحظة، بل عن الهوية، عن المغرب الذي يسكنها، عن روحه ولهجته وموسيقاه. غنّت مع عبد القادر وهبي، فأنجبت “جريت وجاريت”، ومع محمد بنعبد السلام “البحارة”، و”نوارة”، ثم مع عبد الرحيم السقاط، فخرجت “شفت الخاتم وعجبني”، ومع عبد القادر الراشدي، فأهدت الجمهور “على غفلة”، ومع أحمد العلوي، غنّت “أمري لله”، وكأنها تضع صوتها بين أيدي القدر، تُسلّم له القلب كما تُسلّم اللحن، وحين غنّت “البحارة”، لم تكن مجرد أغنية وطنية، بل كانت راية تُرفع، كانت جسرًا بين الفن والوطن، حتى أن الحسن الثاني اعتبرها إحدى أروع الأغاني الوطنية.

لكن الأضواء ليست دائمًا نعمة، والنجومية حمل ثقيل. كان المرض يطاردها كما كانت الشهرة تطاردها، والجمهور كان يريد المزيد، شبح الاعتزال يلوح كلما اشتد الألم، لكنها كانت تعود، لأن الصمت لم يكن خيارًا، لأن صوتها كان ظلّها، كان امتدادًا لروحها، وكان يدرك أن بعض الأصوات، إن خفتت، تموت.

نعيمة سميح

حين سافرت إلى لبنان لتصوير “الدنيا نغم”، كانت تبحث عن أفق آخر، عن جمهور جديد، عن فرصة لترسم اسمها بين النجوم العرب، لكنها لم تكن تعرف أن لبنان الذي غنّت فيه، سيحترق أمام عينيها، وأن الأضواء ستتحول إلى قنابل، والتصفيق إلى رصاص. اندلعت الحرب الأهلية، وجدت نفسها محاصرة وسط النار، لا تعرف كيف ستعود، ترى الرصاص حيث كان يفترض أن ترى الزهور، لكنّها نجت، لأن صوتها قدَرٌ لا يُطفأ بسهولة.

نعيمة سميح

وحين يُقال اليوم إن نعيمة سميح قد رحلت، يبدو ذلك كذبة بيضاء، لأن الحقيقة أن الأصوات لا تموت، لأن الفنان حين يكون حقيقيًا، يصبح خالدًا، يتحول إلى ذاكرة جمعية، إلى صوت يسكن الأرواح، إلى إحساسٍ يتكرر مع كل جيل. نعيمة سميح لم تعد بيننا، لكن صوتها لا يزال في الأثير، لا يزال في التسجيلات، لا يزال في قلوب من أحبّها.

تركت لنا “محراب الحب” لنحجّ إليه، و”أحلى صورة” لنحفظها في ذاكرتنا، و”أمري لله” لنستسلم لحقيقتها، و”البحارة” لنبحر معها نحو زمن كان فيه الفن رسالة، وكان الصوت معجزة.

وإن كانت قد غنّت يومًا: “ياك جرحي جريت وجاريت… حتى شي ما عزيت فيك”، فاعلمي يا نعيمة، أن جرح رحيلك عزيز علينا، لن يندمل بسهولة، لأنك لم تكوني مجرد مطربة… كنتِ المغرب بصوته، كنتِ البحر والذاكرة، كنتِ الزمن الذي لا يشيخ، كنتِ النغمة التي لا تنتهي.

السمات ذات صلة

حصاد فبراير