يبدو أن التاريخ يعيد نفسه في علاقة الجزائر بجبهة البوليساريو، حيث تتجه الدولة الراعية للجبهة الانفصالية، للمرة الثانية في ظرف وجيز، نحو تخييب آمال حليفتها التقليدية في نزاع الصحراء، تاركة إياها “الخاسر الأكبر” في معادلة دبلوماسية معقدة تضع فيها الجزائر مصالحها فوق كل اعتبار.
فبعد موجة من التفاؤل الحذر التي سادت أوساط البوليساريو إثر التصعيد الجزائري الأخير ضد باريس، ردا على ما اعتبرته الجبهة دعما فرنسيا متزايدا للمغرب في قضية الصحراء، تشير المعطيات الحالية إلى أن الجزائر في طريقها لتسوية أزمتها مع فرنسا دون تحقيق أي تغيير ملموس في الموقف الفرنسي من النزاع. هذا المنعطف يضع البوليساريو مجددا في موقف حرج، حيث تتبدد آمالها في أن تُترجم “القبضة الحديدية” الجزائرية إلى مكاسب سياسية لصالحها.
هذا السيناريو يكاد يكون نسخة طبق الأصل لما حدث مع إسبانيا، ففي أعقاب إعلان مدريد دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية كحل لنزاع الصحراء، سارعت البوليساريو للإشادة برد الفعل الجزائري القوي الذي وصل حد تجميد العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، لكن مع مرور الوقت، ومع بدء الجزائر خطوات حثيثة لإصلاح ذات البين مع مدريد دون أن يتغير الموقف الإسباني من قضية الصحراء، لزمت البوليساريو صمتا مطبقا، لتجد نفسها مرة أخرى الخاسر الأكبر في مناورة دبلوماسية جزائرية.
وتكشف مراجعة ردود أفعال البوليساريو تجاه التحركات الجزائرية في هذا الملف نمطا متكررا: ترحيب حماسي ومباركة للخطوات التصعيدية الجزائرية في البداية، يليه صمت مطبق وتواري عن الأنظار عندما تبدأ الجزائر في التهدئة والمصالحة دون تحقيق مكاسب للجبهة.
هذا التباين يشير بوضوح إلى حالة من عدم الرضا، وربما الإحباط، داخل قيادة البوليساريو من مآلات التحركات الجزائرية التي تبدو وكأنها لا تأخذ مصالح الجبهة بالاعتبار الكافي عند ساعة الحقيقة.
وتعزز العديد من القراءات السياسية الفكرة القائلة بأن الجزائر ليست مجرد “داعم” للبوليساريو، بل هي طرف رئيسي ومستقل بأجندته الخاصة في نزاع الصحراء. صحيح أن الطرفين يلتقيان في مطلب “الانفصال”، إلا أن دوافع وأهداف الجزائر تبدو أوسع وأكثر ارتباطاً بمصالحها الجيوسياسية والاقتصادية الإقليمية، ورغبتها في الحفاظ على دور مؤثر في المنطقة. هذا يفسر لماذا تتخذ الجزائر قرارات تصعيدية أو تهدئة بشكل أحادي، دون تنسيق مسبق أو حتى إخطار لقيادة البوليساريو، التي تجد نفسها غالباً أمام الأمر الواقع.
هذه الحقيقة، وإن كانت مرة، بدأت تتسرب إلى وعي بعض القيادات داخل الجبهة الانفصالية. التسريب الصوتي المنسوب للقيادي البارز البشير مصطفى السيد، شقيق مؤسس الجبهة، والذي انتقد فيه عدم رغبة الجزائر في خوض حرب من أجل البوليساريو واتهامها بخدمة مصالحها الخاصة، كان بمثابة جرس إنذار كشف عن وجود تيار داخل الجبهة يدرك هذه الديناميكية المعقدة، مقابل تيار آخر لا يزال متمسكاً بصورة الجزائر كـ”السند المطلق”. هذا الانقسام يعكس حالة التخبط التي تعيشها الجبهة.
ويأتي هذا الإدراك المتأخر في وقت تعاني فيه البوليساريو من هزائم متتالية على الصعيدين السياسي والعسكري منذ استئناف المواجهات في 2020. فالنجاح المغربي في تأمين معبر الكركرات وإبعاد عناصر البوليساريو عن الجدار الأمني، توازى مع نجاح دبلوماسي تمثل في كسب اعتراف ودعم دول وازنة كالولايات المتحدة وإسبانيا، وتأكيد دول أخرى كفرنسا على دعمها للحلول الواقعية تحت السيادة المغربية.
في المحصلة، تبدو التحركات الجزائرية، التي قد تظهر للوهلة الأولى كخدمة لمصالح البوليساريو، وكأنها لا تعود على الجبهة الانفصالية بأي فائدة حقيقية. بل إنها قد تخدم مصالح جزائرية “ضيقة” ومؤقتة، تهدف للحفاظ على بعض المكتسبات أو إبقاء الوضع على ما هو عليه، دون أن تنجح في تغيير المواقف الدولية الداعمة للمغرب أو حتى إعادتها إلى مربع الحياد. وتبقى البوليساريو، في نهاية كل جولة دبلوماسية، هي الطرف الذي يدفع ثمن لعبة المصالح الكبرى.