الرئيسية / نبض المجتمع / سعيد بنجبلي… من حلم التغيير إلى عزلة الغربة ومحنة الوجود

سعيد بنجبلي… من حلم التغيير إلى عزلة الغربة ومحنة الوجود

نبض المجتمع
فبراير.كوم 03 أبريل 2025 - 22:00
A+ / A-

في الثاني من أبريل 2025، أسدل الستار على حياة سعيد بنجبلي، أحد الوجوه البارزة في المشهد الرقمي المغربي خلال العقدين الأخيرين. توفي الرجل في منفاه الاختياري بمدينة بوسطن الأمريكية، بعيدًا عن وطنه وأسرته التي سبقته إلى فرنسا، لكن خلفه لا زال حاضرًا بقوة: مداخلاته، كلماته، معاركه، وأثره الممتد في الحقول الرقمية والفكرية والحقوقية.

لم يكن بنجبلي مجرد ناشط عابر أو مدوّن تقليدي؛ بل كان تجسيدًا لما يمكن تسميته بـ”الوعي القلق”. وعيٌ مشتبكٌ مع نفسه، منخرطٌ في الزمن السياسي والاجتماعي، مشاكسٌ للسلط، وللدوغمائيات الفكرية والدينية، حتى وإن كلفه ذلك باهظًا. وهو ما حصل فعلاً.

ولد سعيد بنجبلي سنة 1979 بأولاد افرج، ونشأ وسط بيئة محافظة ستشكل لاحقًا ركيزة أساسية في مساره الفكري المعقد. تلقى تكوينه الجامعي في الدراسات الإسلامية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، لكنه سرعان ما وسّع اهتماماته العلمية نحو مجالات الهندسة الكيميائية وتطوير البرمجيات، في تجسيد مبكر لطبيعته المركبة: عقل علمي من جهة، وروح قلقة متسائلة من جهة ثانية.

في ربيع 2011، بزغ اسم بنجبلي بقوة مع انطلاق حركة 20 فبراير. كان من أوائل من دعوا إلى الخروج للاحتجاج، وأسّس الصفحة الرسمية للحركة على فيسبوك، مشاركًا في تشكيل خطابها وتوجهها الإعلامي.

لم يكن آنذاك شخصية هامشية، بل من صناع اللحظة ومهندسيها الرقميين. وفي خضم الحراك، اكتسب شرعية شبابية لم تأتِ من انتماء حزبي أو تنظيم كلاسيكي، بل من وعيه النقدي واستقلاله الجذري.

لكن سنوات الحلم لم تدم طويلًا. دخل سعيد في صراعات مع أجهزة الدولة، وبدأت متاعبه القضائية تتصاعد، حتى وُضع تحت المراقبة القضائية سنة 2020، فُرض عليه المنع من السفر، وحُجز حسابه البنكي وسيارته ومنزله، دون قرار قضائي مبرر، ودون أن تُمدد الإجراءات وفق مقتضيات قانون المسطرة الجنائية. وكان قد عبّر مرارًا عن استغرابه من استمرار هذه “العقوبة غير المعلنة”، مؤكدًا أن متابعته كانت سياسية وأن التهم الموجهة إليه ملفقة.

في تلك الفترة، بدأ الوجه الثاني من مأساة بنجبلي يتجلى: المعاناة مع اضطراب ثنائي القطب، وهو مرض نفسي معقد يجعل صاحبه يتأرجح بين نوبات من الهوس والاكتئاب. وعلى الرغم من تعامله العلني والصريح مع حالته الصحية، إلا أن المرض ألقى بظلاله الثقيلة على حياته الاجتماعية، المهنية، والأسرية، خاصة وأنه عاش بعيدًا عن أسرته المقيمة بفرنسا، في عزلة واغتراب مركب.

وفي خضم معاناته النفسية، اتخذ بنجبلي مواقف فكرية جريئة ومثيرة للجدل. أعلن فقدانه للإيمان، واعتبر أن الإسلام بالنسبة له تحول إلى ثقافة أكثر من كونه عقيدة. ثم ما لبث أن أعلن “نبوته” في لحظة ملتبسة تداخل فيها الألم النفسي مع البحث الفكري والتأمل الصوفي. لم يكن يقصد – على الأرجح – النبوة بمعناها الديني الصريح، بل كانت محاولة روحية للنجاة من اختناق داخلي، كما أوضح لاحقًا.

هذه التصريحات والمواقف جلبت عليه سيلاً من السب والشتم والتكفير، حتى بعد وفاته، إذ عبّر البعض عن شماتة قاسية فيه، متناسين ألمه، وسياق معاناته، وصدقه العميق مع نفسه. لكن بالمقابل، دافع عنه عدد من الحقوقيين والمثقفين، معتبرين أنه “أقرب إلى الله من أولئك الذين ادّعوا احتكار الدين”، وأن رحلته الفكرية – رغم قسوتها – كانت محاولة نبيلة وصادقة للبحث عن الحقيقة.

سعيد لم يكن يومًا عدوًا لأحد، بل كان عدوًا للخوف، وللصمت، وللخضوع. عاش حياته باحثًا عن معنى، متحديًا الأطر المعلبة، ناقدًا لما اعتبره نفاقًا اجتماعيًا ومؤسساتيًا، مدافعًا عن الحرية، حتى وهو في أسوأ حالاته النفسية.

ورغم المرض، استمر سعيد في كتابة التدوينات، وتسجيل المقاطع، والمشاركة في النقاشات. لم يكن يرغب في الصمت، بل ظل يقاوم إلى آخر رمق، محاولًا أن يكون “في سلام مع نفسه ومع العالم”، كما كان يردد.

اليوم، بعد وفاته، يُفتح النقاش من جديد حول قضايا كثيرة: حرية المعتقد، الحق في التعبير، وضع المرضى النفسيين، تعامل الدولة مع الأصوات المزعجة، وحدود التضامن الإنساني. لكن قبل كل ذلك، يُطرح سؤال بسيط وإنساني: ألم يكن من حق بنجبلي أن يُدفن بكرامة؟ أن يُفهم لا أن يُدان؟ أن يُصغى إليه بدل أن يُصمت؟

لقد رحل سعيد بنجبلي، لكن صدى صوته لن يغيب. سيبقى مثالًا للعقل الحر، للمثقف القلق، وللناشط الذي رفض أن يكون تابعًا. ترك وراءه حكاية إنسانية معقدة، مؤلمة، ولكنها حقيقية بقدر ما هي مُلهمة.

السمات ذات صلة

مواقيت الصلاة

الفجر الشروق الظهر
العصر المغرب العشاء

أحوال الطقس

رطوبة :-
ريح :-
-°
18°
20°
الأيام القادمة
الإثنين
الثلاثاء
الأربعاء
الخميس
الجمعة