في حوار مفتوح يستعيد فيه ذكريات طفولته وشبابه، يكشف الكاتب والصحفي المغربي بنيحيى عن محطات حاسمة في مسيرته الشخصية والفكرية، مستعرضًا تفاصيل حياة جيل عاصر فترة ما بعد الاستقلال وسنوات الجمر والرصاص في المغرب.
ولد بنيحيى في حي المصلى بطنجة، تحديدًا في فرع منه يُسمى “حي زويلة”، قبل أن تنتقل أسرته عام 1953 للإقامة في حي القصبة العتيق بالمدينة. يتذكر “الزنقة الطويلة” – ذلك الممر الذي يؤدي مباشرة إلى ساحة المشوار وباب البحر المطل على الواجهة الخلفية لميناء طنجة والضفة الإيبيرية – بكثير من الحنين.
“هنا ترسخت في ذاكرتي العديد من اللحظات الجميلة، أولها عملية الختان التي خضعت لها في هذا الحي”، يقول بنيحيى الذي ينحدر من عائلة عريقة في طنجة. فوالده ينتمي لعائلة “مننا مفرج” المعروفة، وكان جده المعلم علي بن يحيى أحد المهندسين البارزين الذين أسهموا في تصميم وبناء العديد من الدور والبيوتات التي ما زالت قائمة حتى اليوم.
أما والدته فتنتمي إلى آل بوعياد، ووالدها هو الشيخ العربي بن العربي بوعياد الطنجي، رفيق الشيخ محمد بن صديق الغماري مؤسس الزاوية الدرقاوية الصديقية بطنجة، والذي كان خطيبًا للجمعة في الزاوية الصديقية ومدرسًا لأبناء الشيخ محمد بن صديق.
التحق بنيحيى بكُتّاب صغير يُسمى “سيدي الطيب” بجوار بيتهم، وبعد انتقال الأسرة إلى حي مرشان، توجه إلى مدرسة حرة تُسمى “مدرسة القادري” أو “مدرسة النهضة الحرة”. يروي كيف تدخلت سيدة جزائرية من آل بن غبريط لتمكين والدته التي لم تكن تملك إمكانيات مادية من تسجيله في هذه المدرسة.
“قالت لها الشريفة: الله يرحم والديك، ابنتي ما عندناش باش نخلصو على هذا الوليد باش يقرا. إذا كنت تدوي مع السي عبد العزيز القادري، خلي هذا الوليد يقرا. را قرا لي واحد البركة في الجامع وما بغيتش يبقى بحال خوته الآخرين.”
وعندما عُيّن والده مقدمًا في حي “مسترخوش وفالفلوري”، كان عليه أن يقطع مسافة طويلة تستغرق ساعة ونصف أو ساعتين للوصول إلى المدرسة. “كانت الوالدة دائمًا تجهز لي بويضة وبعض حبات الزيتون وطريد الخبز لأتناوله في المدرسة لأنني لا أستطيع العودة للبيت. كانت مرحلة صعبة ولكن يسكنني دائمًا الحنين إليها. جميل جدًا أن يعيش الإنسان تجربة قاسية إلى هذا الحد ويخرج منها سالمًا.”
بعد حصوله على الشهادة الابتدائية عام 1964، انتقل إلى ثانوية محمد الخامس التي كان مديرها آنذاك كاتب فرع حزب الاستقلال، السيد محمد الريفي، قبل أن يتولى المسؤولية السيد أحمد بوعيش. ويشير إلى أستاذه الراحل محمد الميموني الذي حفزه على كتابة الشعر وتنبأ بأن تكون له بصمته في التجربة الشعرية.
حصل على البكالوريا عام 1971 وتوجه إلى الرباط، حيث اجتاز مباراة الدخول إلى المدرسة الإدارية المغربية وسجل في الوقت نفسه بكلية الحقوق في شعبة العلوم السياسية خلال الموسم الجامعي 1971-1972.
يصف بنيحيى تلك الفترة بأنها كانت تشهد صعود المد اليساري داخل الكلية، وكيف أن الخلايا التي تم اعتقالها فيما بعد كانت تتشكل أغلبيتها من شباب مدينة طنجة ومنطقة الريف. انخرط في هذا التيار لكنه في النهاية لم يستمر في الدراسة بالمدرسة الإدارية.
“قلت لنفسي: ستخرج من المدرسة الإدارية وستعمل مع المخزن وستصبح عاملًا أو باشا”، يقول مستذكرًا أن العديد من أصدقائه أصبحوا عمالًا وباشوات.
ثم تأتي لحظة فارقة في حياته عندما التقى بعبد الله إبراهيم، السياسي المغربي البارز، الذي دعاه للعمل معه في جريدة “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” بالدار البيضاء. “وجدتني في الدار البيضاء أقيم في شارع محمد الخامس في الرومبوانشيل، قرب مقر الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية. كان علي أن أذهب إلى مطبعة ‘إمبريزيما’ التابعة للاتحاد المغربي للشغل حيث كانت تُطبع الجريدة الأسبوعية التي تصدر كل خميس.”
في هذه الفترة، انعقدت صداقة متينة بينه وبين الصحفي مصطفى اليزناسني الذي كان يعمل في جريدة “مغرب إنفورماسيون”. يصف هذه المرحلة بأنها كانت “في أوج سنوات الجمر والرصاص”، حيث كانت الخلايا المسلحة موجودة في الدار البيضاء آنذاك.
“عبد الله إبراهيم كان يعيط لي للدار ديالو، نجلس معه ويحكي لي. والغريب أن ليلة صدور الجريدة يوم الأربعاء، كان يبقى معي حتى الثالثة أو الرابعة صباحًا، ثم يأخذ نسخة من الجريدة معه، لأنها كانت تخضع للرقابة.”
رغم أن عبد الله إبراهيم حاول إقناعه بالانخراط في الحزب، إلا أنه فضل البقاء مستقلًا: “قلت له: مولاي عبد الله، أنا جئت لأشتغل معك، والانتماء ديالي خليه لي، لا أعلنه ولا أتبجح به.”
بعد فترة عمله مع عبد الله إبراهيم، عاد بنيحيى إلى طنجة حيث قضى حوالي أربعة أشهر من “البطالة الجميلة” برفقة الكاتب المغربي الشهير محمد شكري والشاعر عبد اللطيف الفؤادي الذي توفي إثر حادثة سير في مراكش. “عشت بطالة جميلة فيها شويا ديال الشغب الجميل. غادي تصاحب شكري وما تعيش الشغب يستحيل.”.
ظلت علاقته بمحمد شكري قائمة من 1972-1973 حتى وفاته في 15 نوفمبر 2003 في المستشفى العسكري بالرباط بعد صراع مع مرض السرطان.
حصل بنيحيى على وظيفة معلم متدرب في مكناس، حيث عُيّن في ثانوية الفشتالي. عاش في البداية في فندق بـ 210 دراهم شهريًا، قبل أن يتم استيعابه في الداخلية بفضل إدريس السلاوي، مدير المعهد الديني آنذاك، الذي رحب به لمجرد أنه من طنجة – المدينة التي استقر فيها أستاذه عبد الله جنون.