منذ زمن يتخطى العقدين على الأقل وموضوع رقمنة مهنة المحاماة في المغرب يحتل حيزا مهما في خطاب الفاعلين في الحقل القانوني والقضائي ، وهو أمر يعتبر صحيا بالنظر لكون استعمال التكنولوجيا الحديثة قد غزا كل المجالات الحياتية، وسعت إلى الاستفادة منه جل المؤسسات والأفراد، وبالتالي ليس بإمكان المحاماة ان تتجاهله أو تتغاضى عنه؛ لكن بالمقابل فإن نتائج هذا الاهتمام تبقى محصورة عمليا في قلة من مكاتب المحامين، أو في استعمالات جزئية ومتفرقة لدى الهيئات المهنية؛ في حين أنه كان بالإمكان خلال كل هاته الفترة الطويلة، تحقيق تقدم متميز ونتائج أفضل في المهنة لو تم إدراج توظيف التكنولوجيا الحديثة كأولوية أساسية لتطويرها وتحسين خدماتها ومردودها.
فلماذا لم تتمكن مهنة المحاماة بالمغرب من اقتحام مجال الرقمنة وتوظيف التكنولوجيا في مختلف مجالات تدخلها ومؤسساتها وبالسرعة التي يتطلبها ذلك؟ وما الذي يفسر التردد في تنزيلها بشكل عملي؟ أمرده لانعدام اقتناع حقيقي لدى الفاعلين في حقل المحاماة بمسألة الرقمنة؟ أو الأمر مرتبط بتصور مغالى فيه لصعوبات التحول الرقمي للمهنة ولمخاطره والتخوف من الإقدام عليه؟ أم يعود للسياق العام للتحول الرقمي على المستوى الوطني؛ الذي لا يشجع المهن بصفة عامة ولا يوفر لها الشروط الموضوعية ؟ أم أن الأمر يعود لكل هذه الأسباب وغيرها مجتمعة؟
محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات يتطلب الاستعانة ببعض المفاهيم النظرية الأساسية المتعارف عليها في مجال تدبير التحول الرقمي للمؤسسات والمهن وأيضا ما يمكن استلهامه من تجربتنا المتواضعة في الإشراف على مشروع التحول الرقمي في مراحله الأولى لقطاع العدل، ومن تم تقديم تصور لبعض الحلول والبدائل المقتبسة من التجارب المقارنة وطنيا ودوليا.
البدء يتطلب أن يتم توضيح المقصود بالرقمنة والتكنولوجيات الرقمية التي من الممكن دمجها في مختلف جوانب مهنة المحاماة ووظائفها وعملها، وأيضا جرد وتقديم المزايا والفوائد التي يرجى ان تجنيه منها، والتي يعتبرها البعض لا تقف فقط عند تحسين معيش ومردود المحامي بل تمكن من تنمية المهنة وتطويرها برمتها.
مفهوم الرقمنة
تقديم تعريف مبسط للجوانب التقنية للرقمنة، يعتبر ضروريا للمساهمة في رفع اللبس الناجم عن الجهل والتضخم في تسمياتها والمصطلحات التي تشير إليها؛( الأتمتة – المكننة – الحوسبة – وأيضا الخلط بين مختلف مكوناتها (الحواسيب- الخوادم- البرمجيات – التطبيقات – الأنترنبت….)، وهو ما ينجم عنه تشويش على مفهوم الرقمنة لدى العديد من الناس بمن فيهم المحامون، بل ويفسر جزء من أسباب عدم إقدام العديد منهم لدمجها في عملهم.
التعريف البسيط الذي نعتبر ان يقرب المقصود بالرقمنة هو أنها ” معالجة تقنية للمعلومة سواء كانت شفوية او مكتوبة او صوتية او على شكل صورة أو مستند، وتحويلها إلى إشارات إلكترونية ضوئية يتم توضيبها في تركيبة او سلسلة رموز تستخدم فقط الرقمين 0 و 1، وتخصص كل سلسلة فريدة منها لمعلومة واحدة ، علما أن المعلومة في النظام الرقمي يمكن ان تكون فقط حرف و فاصلة أو نقطة أو رقم أو فراغ بينها أو لحظة صمت أو جزيء من صورة….). وتعتمد عملية تحويل المعلومات من شكلها التقليدي إلى تركيبات رقمية أو إعادة تحويلها إلى شكلها الأصلي الذي تعود عليه المستعملون ويفهموه، على توظيف مجموعة من القواعد الفيزيائية الإلكترونية وعلى تحويل مواد ذات خاصيات معينة، ودمجها في أجهزة إلكترونية مثل الحاسوب والخوادم وأجهزة مراكز حفظ البيانات وغيرها، مما تصبح معه معطيات قابلة وصالحة لتخزين في صيغتها الرقمية، وترتيبها على شكل ملفات حسب طبيعتها وتواريخها والمالكين لحق استعمالها. كما يدخل ضمن عملية الرقمنة استعمال عدة أنظمة وبرمجيات رقمية وتطبيقات متنوعة هي الأخرى تركيبات رقمية تشتغل وفق لوغاريتمات معدة سلفا، تسمح باستعمال واستغلال المعلومات بعد تحويلها رقميا حسب طبيعتها ونوعيتها والغرض منها، إضافة طبعا إلى اعتماد الرقمنة على وسائط إلكترونية ضوئية تمكن من التنقل السريع للمعلومات في شكلها الرقمي والربط بين مراكز تخزين البيانات والحواسيب سواء في ذلك الأنترنيت السلكي وللاسلكي والألياف البصرية أو البت عبر الأقمار الاصطناعية.
مزايا الرقمنة وأسباب انتشارها السريع
القدرة على معالجة المعلومات في شكل رقمي إلكتروني والسرعة في تداولها بدقة، أصبحت تتيح إمكانيات جديدة هائلة لتحسين الخدمات وتجويدها، من خلال تخزين وحفظ المعلومات وترتيبها واسترجاعها وتوسيع دائرة استعمالها وتوظيفها وإعادة استغلالها، مع ما يمكنه من ربح للوقت وتوفير للموارد والكلفة واختصار للمسافات وتسهيل للمعاملات. وهذا مكن الرقمنة بصفة عامة، من الانتشار السريع في جميع المجالات وجعل جل المهن تقبل عليها وتدمجها في منظومتها بهدف الرفع من فعاليتها وتقوية قدرات وكفاءات المنتمين إليها، وهو ما حدث أيضا بالنسبة لمهنة المحاماة في العديد من الأقطار، حيث تبين التجارب المقارنة على ان رقمنة مهنة المحاماة واستعمال العديد من أدواتها التكنولوجية المتوفرة لا تتعارض مع خصوصيتها المهنية، وأن دمجها في عملها اليومي يمكنها الاستفادة من كل المزايا المذكورة، بل أكثر من ذلك فرقمنة المهنة أصبح ضرورة ملحة وحتمية للمحاماة إن أريد لها أن تحافظ على دورها وموقعها داخل المجتمع والدولة، وأن تكون قادرة على مواجهة فاعلين قانونين مرقمنين جدد. وأنه لا مناص لتحقيق ذلك إلا عبر تطوير خدمات رقمية والاستجابة للطلب المتزايد عليها من طرف زبنائها وبالأخص الفاعلين الاقتصاديين.
ماهية التحول الرقمي للمهنة
تتلخص فكرة تحويل الممارسة التقليدية لمهنة المحاماة إلى ممارسة رقمية، في جعل كل أو جل المعلومات التي تدخل في وظائف المحامي؛ سواء المتعلقة بعمله الداخلي بمكتبه، أو ما يتعلق بالمدخلات والمخرجات مع الهيئات التنظيمية المشرفة عليه، أو شركائه المؤسسيين وأيضا مع الزبناء، تتم وتنجز عن طريق تحويلها إلى معلومات رقمية وفق الوصف الذي ذكرناه، وتمر عبر وسائط ودعامات إلكترونية معدة لهذا الغرض وذلك عوض الدعامات الورقية وقواعد التواصل التقليدية.
وعمليا فإن التحول الرقمي للمحاماة عن طريق توظيف واستعمال برمجيات وسائط ملائمة لطبيعة مكاتب المحامي، يشمل عدة أوجه منها:
• فتح ملفات رقمية للقضايا وتخزينها وترتيبها وتتبعها والوصول إليها حتى من دون التواجد بالمكتب؛ إضافة إلى أجندة إلكترونية تنظم المواعيد وتوزيع الأشغال وترسل تنبيها بها في أوقات محددة لتفادي الإخطاء او الإهمال.
• توفير طرق تواصل مسموع ومرئي عن بعد مع الزبناء، وتقديم الاستشارات القانونية عبر المواقع والتطبيقات الإلكترونية والمنصات التي تعمل عبر الإنترنت،
• حلول لرقمنة الوثائق القانونية التي تمكن من تحرير العقود أو بعض المستندات القانونية عن بعد باستعمال تقنيات سلسلة الكتل (blockchain) والتوقيع الإلكتروني؛
• إحداث خدمات المساعدة على حل النزاعات عبر الخط التي تقترح حلولا بديلة للمسطرة القضائية التقليدية في بعض أنواع النزاعات.
• استعمال برمجيات ذكاء الأعمال (Business intelligence – المعلوميات التقريرية)، لتقييم عمل ونشاط المكتب بصفة دورية؛ مما يوفر مجموعة من التقارير والإحصائيات الدقيقة حول طبيعة القضايا وخصوصيات الزبناء وترتيب الدعاوى حسب نتائجها وانواعها والاستفادة منها في القضايا الجديدة والمماثلة.
• تفادي ضياع الوقت في تكرار إنجاز بعض الأعمال بما فيها التحرير أو تسجيل المعطيات الشخصية لنفس الزبون.
• استعمال أنظمة الذكاء الاصطناعي وما يتيحه من إمكانيات تحليل كميات هائلة من معطيات القوانين والأحكام والاجتهادات والقضائية والدراسات، والذي يمكن أن يصل إلى حد التنبؤ والتوقع بشكل كبير بالقرارات التي قد تصدر في قضية معينة وفق ما يرصده من توجهات لمحكمة معينة أو لهيئة او لقاضي بحد ذاته.
أما رقمنة علاقات المحامي مع الهيئات الرسمية التي يرتبط بها عمله ويتوقف عليها سواء في المجال القضائي أو الإداري، فإن التجارب العملية أبرزت وجود إمكانات كبيرة وإتاحة فرص للرفع من فعالية المحامي والمهنة ككل، من ذلك على سبيل الذكر:
– التواصل الإلكتروني مع الهيئات المهنية المشرفة على المهنة، عبر المنصات المعدة لهذا الغرض، والحصول بشكل سريع بل وآني، وفي بعض الحالات من دون تدخل بشري، على كل ما يحتاجه من وثائق وشواهد وإخباريات.
– إمكانيات الربط الإلكتروني بمنصات المحاكم المخصصة لتقييد الدعاوى والإدلاء بالمستندات وأداء الرسوم وتتبع مآل القضايا واستخراج الوثائق عن بعد بما فيها الأحكام والتبليغات.
– سهولة الولوج إلى مواقع المخصصة لنشر الأحكام والاجتهاد القضائي الوطني والعالمي.
وموازاة مع ذلك فإن المنظومات الرقمية المقترحة تأخذ بعين الاعتبار الهواجس الأمنية للمهنة، والتي لا تختلف عن مثيلاتها لباقي المهن ذات الطبيعة الحساسة مثل المحاكم والأبناك والقوات المسلحة وغيرها، بحيث طورت التكنولوجيا الرقمية مجموعة من الحلول الموثوق بها لتأمين سلامة المعطيات وسريتها، وحصر استعمالها في من له الحق في ذلك. علما أن المخاطر المحدقة بمعطيات ملفات المحامين غالبا ما تقدم كأول تفسير من طرف جلهم لتحفظهم عليها،في حين هذه المخاطر ليست حصرا على الأنظمة الرقمية بل هي حاضرة حتى بالنسبة للدعامات والملفات الورقية ولربما في مستوى اكبر.
هذه الابتكارات والاستعمالات جد الكثيرة والمتنوعة للرقمنة هي على سبيل المثال وليس الحصر، والعبرة منها هو إبراز الإمكانات التي تتيحها الرقمنة، وأنه لن يكون بوسع المحامي مستقبلا إلا القبول بها وإدماجها في عمله، تحت طائلة ان يصبح متجاوزا إن بقي يتعامل معها بتخوف وجمود تحت ذرائع مختلفة.
واقع رقمنة مهنة المحاماة بالمغرب
إذا كانت رقمنة المهنة تفتح كل هذه الأفاق والتطورات، وتعد بكل هذه الامتيازات والفوائد، بل أنها ممر إجباري لتطويرها، فإن ضعف مستوى توظيفها ودمجها في مختلف جوانبها المهنة داخل المغرب، وكونها لازالت في طور المخاض هو أمر لا خلاف حوله و تؤكده الملاحظات الأولية التالية:
– غياب تام لمعطيات إحصائية أو تقارير ودراسات حول مستوى رقمنةالمهنة والمكاتب واستعمالاتها؛ مما يتعذر معه توفر حد ادنى من المعطيات الموضوعية يمكن اعتمادها لمقاربة تحليلية منهجية للموضوع؛ لذلك نجد مقاربة الموضوع تتم غالبا تعتمد فقط على بعض المعطيات المتفرقة هنا وهناك، والاستنجاد ببعض الارتسامات المتولدة من تجارب شخصية في تدبير التحول الرقمي، وأيضا من مواكبة لنقاشات وأراء الزملاء المحامين الزملاء في بعض الهيئات. ويمكن اعتبار استدراك هذا النقص في تشخيص منهجي لواقع رقمنة المهنة، أول ورش في مشروع رقمنة المهنة.
– وجود بعض المكاتب العصرية الممركز أغلبها بالعاصمة الاقتصادية؛ تستعمل تطبيقات ومنصات غالبا ما تم تطويرها خصيصا لها؛ وتعتمدها للتدبير الداخلي للمكتب والقضايا. كما يتوفر بعضها على موظفين تقنيين متخصصين للسهر على استعمالها وتحسينها وصيانتها. هذه المكاتب هي نفسها التي كانت سباقة للاستفادة من التطبيقات التي أعدتها وزارة العدل او وزارة المالية أو المحافظة العقارية، مثل منصة المحامي التي يصل عدد المحامون المسجلون بها 2200 بعد مرور ما يفوق 6 سنوات على إطلاقها، ولكن عدد المستعملين الفعليين لها لا يتجاوز المائة على أكبر تقدير حسب بعض المصادر.
• قيام بعض الهيئات بتطوير تطبيقات هاتفية ومنصات تشاركية ومواقع على شبكة الأنترنيت، تمكن المنتسبين إليها من بعض الخدمات البسيطة أو تقوم بدور إخباري تعريفي بأنشطتها. ولكنها كلها لا توفر حتى منصة لتبادل الرسائل الإلكترونية مخصصة للمنتسبين لها يحمل تسمية مجالية خاصة بها ( nom de domaine)، بحيث يستمر جلهم في استعمال المنصات العالمية الشائعة( gmail. Yahoo. Outlook…) .
• استغلال الفراغ الرقمي للمهنة من طرف بعض المقاولات الناشئة وبعض المهندسين والتقنيين، لاقتراح برمجيات مبسطة لتدبير مكاتب المحاماة وتسويقها بأثمنة في المتناول، ولكنها تبقى محدودة النتائج، وتحمل في طيها كثير من المخاطر، لأنها من جهة أنجزت من دون دراسات منهجية وبمشاركة المحامين انفسهم، وبالتالي فهي لا تأخذ بالضرورة الحاجيات والقواعد والمعايير الواجب احترامها في تدبير المهنة، ومن جهة أخرى، قد يؤدي استعمالها عشوائيا إلى تسريب المعطيات الخاصة بالمكتب أو ضعف تأمينها، خصوصا إذا ما وطنت في خوادم خارج المكاتب، او عند الاعتماد على أشخاص من خارجها لإصلاح الأعطاب التي تعتريها أو لصيانتها.
وتبقى التجربة الفريدة في مجال رقمنة المحاماة هو ما قامت به هيئة المحامين بالدارالبيضاء قبل جائحة كوفيد؛ والتي كانت تطمح إلى إدخال المهنة لمجال الرقمنة من بوابها الواسع، لولا أنها توقفت بعد أن تم الانتهاء من دراستها وصياغتها على شكل دفتر تحملات، بل وتم توفير ميزانية تمويلها بشراكة مع إحدى المؤسسات المالية العمومية. هذه التجربة التي كادت أن تخرج إلى الوجود نظام رقمي يغطي نسبة كبيرة من جوانب المهنة، كان بالإمكان أن تشكل نواة ونموذجا عمليا لباقي الهيئات وربما تقاسمه معها في إطار التعاضد المهني، إلا انها لم تكتمل لأسباب سيتم التطرق ضمن عوائق الرقمنة بصفة عامة.
ولا بد ان نشير أيضا إلى أن عدة مؤسسات أجنبية خاصة وبعض المنظمات غير الحكومية، قامت بدراسات الجدوى من إحداث منظومة رقمية للمحاماة بالمغرب؛ سواء من اجل تسويق منظوماتها الجاهزة او في إطار تمويل برامج التعاون الدولي لكنها هي الأخرى لم تكلل بالنجاح.
الخلاصة هي وجود قصور كبير في رقمنة مهنة المحاماة بالمغرب، وضعف في توظيفها للتكنولوجيا الحديثة مقارنة مع مهن وطنية أخرى، مثل التوثيق العصري والأبناك والأطباء والصيادلة والمهندسين… أو حتى مع بعض الإدارات والمؤسسات العمومية، وأيضا مقارنة مع مكاتب وهيئات المحاماة بالخارج سواء في الدول العربية أو تركيا أو الدول الغربية والأسيوية.
أسباب تأخر المشروع
من بين ما يستنتج من التجارب المقارنة في مجال التحول الرقمي بصفة عامة بما فيها على المستوى الوطني أو على المستوى الخاص بمهنة المحاماة في التجارب العالمية، نجد ان رقمنة أي مؤسسة أو مهنة لا يمكن أن يتم بشكل معزول عن سياقها، وأنها لا يمكن ان تتحقق إلا بشكل مندمج ومتواز مع شركائها المؤسساتيين، ومع توفير حد أدنى من الموارد البشرية والمادية والتقنية والمالية والقانونية، وإن كان هذا لا يعني أن المنتسبين إلى أية مهنة او منظمة هم في حِلِِ من أن يبادروا من جهتهم للدفع بولوج مهنتهم إلى عالم الرقمنة. وعليه يتم تصنيف الأسباب التي تفسر ضعف وتأخر رقمنة المهن بصفة عامة إلى أسباب خارجية تتعلق بالمستوى العام للرقمنة على المستوى السياق الوطني وأخرى داخلية مرتبطة بطبيعة المهنة وسلوك أفرادها وتكوينهم وبواقع المهنة وتنظيمها وقدراتها الذاتية.
البعد الخارجي لتعثر الرقمنة
يمكن أن يعزى جزء من تأخر رقمنة مهنة المحاماة بالمغرب إلى كونها كنسق فرعي داخل النسق العام للبلاد الوطني، لا يمكنها إلا أن تتأثر بما يطبعه هو الآخر من تأخر وبطئ شديد في التحول الرقمي:
– الاستراتيجيات الوطنية للتحول الرقمي مثل ” البرنامج الوطني للإدارة الالكترونية (2005-2008)، واستراتيجية المغرب الرقمي 2010-2013، والخطة الوطنية لإصلاح الإدارة 2018-2021 بل وبوادر “استراتيجة المغرب الرقمي (2022- 2030)، كلها تظهر ضعفا في تحقيق تطور ملموس في توظيف التكنولوجيا الحديثة في الحياة العامة؛ هذا بالرغم من إحداث العديد من المؤسسات الرسمية وحصر مهمتها في تسريع وتيرة الانتقال الرقمي مثل “وكالة التنمية الرقمية” و” مديرية التحول الرقمي بوزارة الصناعة” وحاليا وزارة بكاملها خاصة بالتحول الرقمي، فضلا عن كل الإمكانيات البشرية المادية التي وفرت للرقمنة، أو بعض الدراسات المعدة في إطار برامج التعاون الدولي مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية(OCDE) التي أعدت تقييما وبرنامجا شاملا لانطلاق الحكومة الرقمية بالمغرب:Revue du gouvernement numérique du Maroc – jeter les bases de la transformation numérique du secteur public au Maroc
ويكفي لتأكيد تعثر السياسات العمومية للرقمنة الرجوع إلى تقرير “المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة”، المتعلق ب “مسح الحكومة الإلكترونية” برسم سنة 2022، لنجد المغرب مصنفا دوليا في المرتبة 101 على 193 فيما يتعلق بمؤشرات الخدمات على الخط والبنية التحتية الرقمية والرأسمال البشري وفي الرتبة 128 في مؤشر المشاركة الإلكترونية، – اتسام الوضع وطنيا – ضعف البنية التحتية للربط الرقمي، وضعف صبيب الأنترنيت وانقطاعاته وغلاء كلفته، بسبب احتكاره من طرف قلة من الفاعلين مجال الاتصالات، وغياب الحلول البديلة مثل فتح مجال المنافسة للفاعين الخارجيين وتعميم الالياف البصرية والاتصال عبر الأقمار الاصطناعية وأيضا إحداث شبكة اتصال مغلقة(boucle fermée) خاصة بالجهات الحكومية والمهن الرسمية.
– تأخر المغرب في التوفر على مركز معلومياتي لتخزين المعطيات DATA CENTER، بصفته بنية أساسية حيوية ليس فقط من حيث ضرورته في الاستعمال التكنولوجي وتطوير الرقمنة، ولكن أيضا وخصوصا في تحقيق الأمن السيبرياني والحفاظ على السيادة الوطني في مجال المعطيات الحساسة، بما فيها تلك التي تهم المحاماة.
– التبعية التكنولوجية للخارج وما يترتب عنها من ارتفاع كلفة الاستثمار في المشاريع الرقمية. فالمغرب لازال مجرد مستهلك ومستورد سواء للأجهزة والمعدات الإلكترونية أو للأنظمة وبرمجيات التشغيل وتامين المعطيات وغيرها، وهو ما ينعكس على كلفة مشاريع الرقمنة ويعقدها.
– قصور في استعمال اللغة الإنجليزية رغم أنها هي المهيمنة في مختلف أوجه التحول الرقمي واستعمالاته.
-إشكالية التوظيف الأمثل للموارد البشرية المتخصصة من مهندسين وتقنيين، وانعدام الحوافر المادية والمعنوية المشجعة على الانخراط في مشروع الرقمنة وعلى الابتكار والاجتهاد، والتي تدفع الدمغة إلى الهجرة خارج أرض الوطن بنسب عالية سنويا؛
– غياب إطار تشريعي شامل ينظم مختلف أوجه الاستعمال الرقمي ويؤمن معاملاته ويحفظ الحقوق القانونية، ويفصل في النزاعات الناجمة عنه، والمثال هنا نجده فيما يهم العمل القضائي، حيث لازال استعمال الوسائط الالكترونية في المساطر القضائية غير مقنن بقواعد واضحة ودقيقة سواء في قانون المسطرة المدنية أو قانون المسطرة الجنائية وكذا قانون الالتزامات والعقود والقانون المنظم لمهنة المحاماة وباقي مهن المساعدة للقضاء.
إذن، من الطبيعي أن تؤثر هذه الصعوبات الهيكلية على المستوى الوطني بشكل مباشر على قدرة المحاماة في دمج التكنولوجيا في وظائفها ومؤسساتها وتحقيق الفوائد المرجوة، لكن كل هذا لا ينفي من جهة أخرى وجود عوامل داخلية خاصة بمجال المحاماة؛ تساهم بدورها وبقوة في انحصار التحول الرقمي المنشود تتلخص في ما يلي:
عوائق الرقمنة الداخلية
من الأسباب التي تعيق انطلاق التحول الرقمي نجد:
– البعد التنظيمي للمهنة، فعدم وضوح دور المؤسسات المهنية للمحامين في هذا المجال وكون قانون المحاماة وبالأخص المادة 89 منه لا يشير إلى تطوير الرقمنة كمهمة للهيئات، -وهو ما تتداركه بعضها بإقحامه في أنظمتها الداخلية او مخططتها وبرامجها- يعتبر عاملا غير مشجع لأنه لا يندرج في إطار مؤسساتي تكسبه صفة رسمية وملزمة.
-النظام الأساسي لجمعية هيئة المحامين في صيغته الحالية والمقترحة، والذي وإن كان ينص على أدورها “في العمل من أجل تأهيل وتحديث مهنة المحاماة وضمان التكوين والتكوين المستمر” وأيضا “التنسيق بين الهيئات وتبادل الخبرات وتوحيد الأنظمة الداخلية”، لا يمكن اعتباره مدخلا كافيا لسهر الجمعية على قضية رقمنة المهنة وتكلفها بها؛ فكونها “جمعية” وليست هيئة تمثيلية ذات سلطة تقريرية، يشكل حاجزا لقيامها بذلك بشكل رسمي، في حين أنها وبالمقابل كتكتل للهيئات المهنية، يمكن ان تشكل فرصة لنجاح مشروع موحد لرقمنة المهنة، من خلال تقاسم كلفته العالية وتدليل صعوباته التقنية والتدبيرية، وأيضا كمخاطب معتمد لدى الشركاء. إضافة إلى ما يمكن أن أن تقوم به من تجميع للتجارب والمعطيات حول الموضوع وتوحد الجهود لبلورة تصور مشترك بين مختلف الهيآت المحامين.
– مكاتب الهيئات والنقباء تواجه صعوبات تنظيمية لجعل مشاريع الرقمنة من أولى الأوليات ضمن قضايا المهنة المتعددة والطبيعة المستعجلة لبعضها ( تعديل قانون المحاماة – التغطية الاجتماعية والصحية – معاهد التكوين…)، وهو ما يضع الرقمنة في أسفل الترتيب.
– الكلفة المرتفعة للتحول الرقمي بكل مكوناته يشكل حاجزا حقيقيا، إذ يمكن ان تبلغ عشرات إن لم نقل مئات ملايين الدرهم، في وقت تتميز الموارد المالية للهيئات المهنية بالمحدودية وشح المصادر.
• قصر المدة القانونية لولاية الهيئات المحددة في 3 سنوات، وضعف تجديد انتخاب نفس أعضائها لولايات متتالية، يطرح إشكالية استمرارية مشاريع التحول الرقمي، التي غالبا ما تتطلب مدد أطول من 3 سنوات، وتعتبر تجربة هيئة الدارالبيضاء التي سبق ذكرها خير دليل على ذلك.
– كل الإرادة والعزيمة التي تبذلها الهيئات المهنية عبر إحداث لجان داخلية تتكلف بالتحديث والرقمنة والتحديث تظل محدودة النتائج بحكم ان أعضاء هذه اللجان ومهما بذلوا من جهد، يبقوا مجرد متطوعين ولا يمكنهم التفرغ للمهمة بسبب ضرورة الاهتمام أيضا بمكاتبهم إضافة إلى محدودية معارفهم بمجال الرقمنة وتعقيداته.
– انحصار وغلبة التكوين الجانب القانوني الصرف للمنتسبين للمهنة، و صعوبة استعمال اللغات العالمية المستعملة في مجال الرقمنة، مع انعدام برامج تعريف وتحسيس وتكوين في مجال استعمال الرقمنة واللغات بما في ذلك عدم دمجها في ندوات التمرين، مما يؤدي إلى الانزواء في المنطق القانوني الصرف ويخلق ما يسميه البعض بالأمية الرقمية.
– تفويض العديد من المحامين مهام استعمال الحواسيب والتطبيقات المكتبية التي قد يتوفرون عليها إلى مساعديهم، لا يعمل على تقريبهم منها وفهمها وخلق الرغبة والفضول ليدهم في تطويرها في مكاتبهم أو في المهنة بصفة عامة، مما يزيد من التباعد بين المحامي والمنطق الرقمي.
فما هو الحل فكيف الخروج من هذه الدوامة التي طال امدها، ومسابقة الزمن لاستدراك ما فات تفاديا لما قد يترتب عن كل تأخر إضافي من نتائج سلبية مضرة بالمهنة؟
من نافلة القول التأكيد على أن تدارك وتصحيح الإشكالات الهيكلية في مسألة التحول الرقمي على المستوى الوطني هي من مسؤولية الدولة، ولكن ذلك لا يمنع من أن المحاماة كمؤسسة فاعلة يمكن ان تؤثر في بعض جوانبها من خلال تمثيلياتها وموقعها كمخاطب أساسي للدولة وخاصة قطاع العدل من جهة، ومن جهة أخرى عبر العمل على تجاوز المشاكل والعقبات التي تم رصدها على المستوى الداخلي للمهنة.
فبالعودة للتجارب المقارنة، سنجد ان ما تم رصده من صعوبات وأسباب داخلية لا يختلف من حيث طبيعته عن المسار الذي عرفته هذه التجارب إن على المستوى الوطني أو العالمي، وانه بالنظر لتكراره وشيوعه فقد شكل موضوعا لدراسات أكاديمية وميدانية بالجامعات العالمية الكبرى ومن طرف مكاتب دراسات و منظمات تابعة للأمم المتحدة وغيرها، وهو ما مكن من بناء نظرية ومفاهيم متكاملة صالحة لتدبير مشاريع للتحول الرقمي، وصياغة نماذج وقواعد تساعد على تفادي الأخطاء المنهجية التي قد تؤدي إلى فشله او عدم تحقيق كافة النتائج المتوخاة منه.
وخلاصة ما يمكن اقتباسه لفائدة مشروع رقمنة المهنة بالمغرب من هذه الدراسات المتخصصة والتي أتثبت التجارب الميدانية فعاليتها هو:
– مشروع رقمنة المهنة يجب أن يتم في إطار مندمج ومتواز مع شركائها المؤسساتيين وداخل سياق يوفر حد أدنى من الشروط المادية والتقنية والمالية إضافة إلى الإطار القانوني؛
– ضرورة صياغة مشروع استراتيجي وطني للتحول الرقمي للمهنة، يتضمن تصورا واضح الغايات والأهداف والنتائج المنتظرة منه، وذلك انطلاقا من دراسة الجدوى وبإشراك قواعد المنتسبين بواسطة تقنيات استغوار الرأي وغيرها؛
– إعداد مخطط مديري منجز من طرف مكتب دراسات مختص، تحت إشراف لجنة قيادة مهنية لها صلاحية المصادقة عليه، إضافة إلى لجنة مراقبة تقنية مكونة من محامين متمرسين؛
– تحديد مسبق وواضح للمسؤوليات ومجال تدخل الفرقاء ومستويات اتخاذ القرارات على صعيد الهيئات والجمعية وأيضا أدوار الشركاء المؤسسيين؛
– اعتماد تقنيات التدبير الحديث للمشاريع (techniques de gestion de projet)، ووفق دفتر تحملات دقيق؛ يتضمن مراحل الإنجاز وجدولتها الزمنية وتواريخ دورية للمراقبة والتقييم ومؤشرات لتحديد المخاطر والتقويم؛
– الاعتماد على موارد بشرية متخصصة وتحديد موارد وطرق تمويل مؤكدة ومضمونة؛ (التجربة البلجيكية تمول النظام الرقمي من نسبة جد ضيئلة من الأتعاب يؤديها المتقاضي مقابل تحسين الخدمات عبر الرقمنة)
– العمل منذ بداية المشروع وفي كل مراحله على تدبير مقاومة التغيير؛ عن طريق إشراك كافة المنتسبين وتكثيف التواصل البناء معهم حوله ؛مع تمكنيهم من التعبير عن مقترحاتهم لضمان انخراطهم فيه بعد البدء في العمل بمخرجاته؛
– إعداد برامج تكوين في مجال الرقمنة واستعمالاتها بالموازاة مع تقدم إنجاز المشروع.
الخلاصة أن مجمل الأفكار والمقترحات المطروحة أعلاه التي تم استيحاؤها من مصادر مختلفة، ما هي إلا نزر قليل مما يهم موضوع رقمنة المهنة، والذي يجب ان يشكل موضوع مناظرة وطنية واسعة تنظم على شكل دورات في ضيافة كل الهيئات وبمشاركة جميع الأطراف المهنية والشركاء المؤسساتيين، إضافة إلى الاعتماد على الممارسات الفضلى ومختصين في مجال تدبير المشاريع التكنولوجيا الحديثة، وممثلي المهن التي قطعت أشواطا في الرقمنة، والكل من اجل الخروج بتوصيات متفق عليها تشكل أرضية صلبة لانطلاق مشروع رقمنة المهنة الذي طال انتظاره.