بعد ساعات قليلة من العملية الإسرائيلية الأخيرة في إيران، بدأت تتكشف خيوط ما يبدو أنه مخطط معقد يتجاوز الردود المباشرة، ليكشف عن مفاتيح خفية ظلت بعيدة عن الأضواء وتشير إلى ترتيبات استراتيجية واسعة النطاق.
ففي مقدمة هذه الترتيبات، تشير المعطيات إلى أن الولايات المتحدة والغرب قد مارسوا لعبة خداع استراتيجي مع إيران، موهمين إياها بإمكانية التوصل إلى اتفاق نووي، بينما كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يناوران بتحركات مموهة على مدى الشهرين الماضيين، تمهيداً لسيناريو مختلف تماماً.
وفي هذا السياق المعقد من المناورات، يُطرح وجود صفقة أمريكية-روسية تشمل ملفي إيران وأوكرانيا. تتضمن هذه الصفقة، حسب التسريبات، وقفاً محتملاً للحرب في إيران مقابل تهدئة الجبهة الأوكرانية، وتدمير البرنامج النووي الإيراني مقابل مكاسب ميدانية روسية في أوكرانيا.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يُعتقد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستفيد من هذا الترتيب عبر نقل مواد نووية إيرانية إلى موسكو، بالإضافة إلى لجم طهران والحصول على أعداد كبيرة من الطائرات المسيرة الإيرانية بأسعار زهيدة، مستغلاً حاجة طهران الماسة للدعم في وجه الضغوط. ويرى بوتين في ذلك فرصة تاريخية لإجبار طهران على تقديم كافة التنازلات لموسكو مقابل بقاء المرشد في منصبه وضمان عدم انهيار النظام.
وبالتوازي مع هذه الترتيبات الدولية، لم تكن دول الخليج، خاصة السعودية وقطر والإمارات، بعيدة عن هذه التحركات. إذ تشير المعلومات إلى أنها اطلعت على خطة ترامب لتحييد البرنامج النووي الإيراني، وربما حتى إسقاط النظام في طهران، مقابل صفقة مالية ضخمة تقدر بـ 4 تريليونات دولار.
أما على الصعيد الاستراتيجي الإسرائيلي المباشر، ووفقاً لهذه القراءة، فإن إسرائيل قد شرعت منذ أحداث السابع من أكتوبر في عملية “جراحية” دقيقة في الشرق الأوسط، هدفها تمهيد الطريق نحو طهران.
وشمل ذلك العمل على تدمير قدرات حماس وحزب الله، والسعي للإطاحة بنظام بشار الأسد، ولجم الحوثيين، كل ذلك مع ترقب رد الفعل الإيراني وانتظار اللحظة المثالية للضربة الكبرى. ولتأمين هذه الاستراتيجية، تشير المعلومات إلى أن نتنياهو عمل خلال الأشهر الماضية على تشييد قواعد عسكرية في سوريا والعراق، وفي مناطق قريبة من الحدود الغربية الإيرانية، بدعم محتمل من الأكراد وبعض الجماعات السنية، وربما حتى داخل الأراضي الإيرانية.
وجاء توقيت الضربة الإسرائيلية، بحسب هذه التحليلات، ليخدم هذه الأهداف المتشعبة، إذ اعتُبر مثالياً لتحقيق عدة غايات: تحييد القدرات النووية الإيرانية لإجبار طهران على الانصياع لترامب قبيل أي اتفاق محتمل، وتنفيذ ضربة مفاجئة بعد “تنويم” الإيرانيين على عدة مستويات، وتجنب سقوط الحكومة الإسرائيلية بسبب ملف “الحريديم”، بالإضافة إلى تقوية جبهة ترامب الداخلية بعد الاحتجاجات الأخيرة. وفي إطار هذه اللعبة الكبرى، يبدو أن إسرائيل تعمدت إطالة أمد ملف غزة بهدف كسر شوكة الإيرانيين والتخلص من تهديدات المرشد الأعلى، قبل التفرغ لصفقة كبرى تضمن السيطرة على قطاع غزة وإعادة رسم خريطة إسرائيل الموسعة دون أي إزعاج.
وعلى مستوى أعمق، يُنظر إلى العملية العسكرية الإسرائيلية على أنها تهدف إلى رسم معالم القوة الجديدة في المنطقة. ويرى مراقبون أن أحداث السابع من أكتوبر كانت نقطة انطلاق لنتنياهو لجر الإقليم نحو حالة من عدم الاستقرار تهز ثقة الجميع بأنفسهم وتنشر الرعب، بهدف تنصيب نفسه “نبياً” لليهود ومخلصاً لهم من “شر المحور الإيراني”.
وتستند هذه الاستراتيجية الإسرائيلية إلى إدراك تل أبيب العميق لمخاوف إيران، التي بعد تحقيقها بعض التقدم الاقتصادي، لديها الكثير لتخسره. فنتنياهو يدرك أن المرشد الإيراني يرتعد من فكرة التقهقر سنوات إلى الوراء جراء تدمير البنية التحتية الاقتصادية والطاقوية والتكنولوجية، وأن طهران اليوم تخاف على ما بنته.
وفي المحصلة، فإن ما يُسمى بـ “الصبر الاستراتيجي” الإسرائيلي قد مكن تل أبيب من إحكام قبضتها على الأذرع المسلحة الإيرانية في المنطقة، ونجحت في استنزاف قدرات الميليشيات وكشف مواقعها ومدى قوتها الحقيقي.
إن صحت هذه القراءة المتعددة الأوجه، فإن ما نشهده ليس مجرد ردود فعل عسكرية متفرقة، بل فصول من خطة استراتيجية واسعة النطاق، تم التخطيط لها بعناية وتُنفذ بدقة، محورها إيران ومستقبلها النووي، وتداعياتها سترسم ملامح جديدة للشرق الأوسط.