التازي: مهرجان كناوة مشروع مقاومة ثقافية ناعمة والمغرب يعيد تقديم إفريقيا للعالم
حين تقترب من بوابات الصويرة في نهاية شهر يونيو، تتبدل ملامح المدينة الهادئة. تتحول الأزقة الحجرية والمآذن البيضاء إلى جسور موسيقية تربط شمال المغرب بجنوبه، وإفريقيا بأقصى عواصم العالم.
هناك، في قلب المدينة العتيقة، ينبض مهرجان كناوة وموسيقى العالم، لا كحدث فني عابر، بل كتجربة حضارية عميقة تُعيد تعريف العلاقة بين التراث والحداثة، بين المحلي والكوني، وبين الصوت والذاكرة.
منذ تأسيسه، تجاوز المهرجان كونه مجرد لحظة احتفالية موسمية، ليصير منصة حقيقية لصياغة سردية ثقافية مغربية جديدة لا تُخفي نايلة التازي، منتجة المهرجان، فخرها بهذا المشروع الذي تحوّل إلى علامة فارقة في المشهد الثقافي المغربي والعالمي، مؤكدة أن كناوة لم تعد فقط طقساً روحياً، بل باتت جزءًا من استراتيجية دبلوماسية ثقافية تضع المغرب في قلب التفاعلات الرمزية للعالم.
تقول التازي بصوت يحمل إيماناً عميقاً بما تصنعه:“الثقافة لم تعد ترفاً في السياسة الدولية. لقد صارت أداة نفوذ ناعم، ونافذة لتثبيت التموقع الجيو-استراتيجي. المغرب فهم هذا مبكراً، وراهن على الثقافة كرافعة سيادية حقيقية. مهرجان كناوة ليس مجرد فرجة، بل هو إعلان سياسي وثقافي عن مغرب يؤمن بأن التنوع هو أساس الوحدة، وبأن إفريقيا ليست تابعة بل مبادِرة وفاعلة”.
في الدورة السادسة والعشرين، التي ستُقام من 19 إلى 21 يونيو، تستقبل الصويرة 350 فنانًا من شتى أنحاء العالم، يقدمون 54 عرضًا موزعًا بين الحفلات الكبرى والعروض التراثية الحميمية، لكن وراء هذه الأرقام يكمن سؤال جوهري: كيف نجح المهرجان في الحفاظ على روحه، رغم التحولات المتسارعة في الذوق، والسوق، والعالم؟
ترد التازي بثقة:“الاستمرارية لا تأتي من الترفيه، بل من الرؤية. نحن لا نستهلك العولمة الثقافية، بل نعيد إنتاجها من موقعنا الخاص، انطلاقًا من ذاكرتنا الجماعية. المهرجان مشروع يحمل قناعة فلسفية وهوية واضحة: أن نكون عالميين دون أن نفقد جذورنا، وأن ننفتح على الآخر دون أن نذوب فيه”.
تلك الهوية، بحسب التازي، تتجلى خصوصًا في الطريقة التي يُقدَّم بها فن معلمي كناوة، الذين لا يُنظر إليهم كفولكلور، بل كحراس لذاكرة جماعية طويلة قاومت الاستعمار، الرق، والنسيان. فهم ليسوا مؤدين، بل رواة حكاية إفريقية تمتد من أعماق الصحراء إلى شواطئ الأطلسي، ومن أعراس الزوايا إلى مسارح نيويورك.
“السر في الخلطة،” تقول التازي، “هو أن نحترم الأصل وننفتح بذكاء. نحن لا نختزل كناوة في صيغ استهلاكية، بل نمنحها أفقاً عالمياً. وعندما تلتقي القمبري بالجاز، فإننا لا نصنع ترفيهًا سياحيًا، بل نخلق لحظة مقاومة ثقافية، تقول إن إفريقيا قادرة على أن تروي للعالم قصتها بلغتها الخاصة”.
لكن المهرجان لا يقتصر على الموسيقى. هناك بعد آخر لا يقل أهمية: منتدى حقوق الإنسان، الذي تعتبره التازي “القلب النابض” لهذا المشروع، حيث تلتقي الأصوات الفكرية والسياسية من الجنوب والشمال لمناقشة قضايا الهجرة، الهوية، الشتات، والعدالة. وتضيف:
“لسنا مهرجاناً للفرجة، بل فضاء لصناعة المعنى. حين يجلس ناشط من مالي إلى جانب أكاديمي من أمريكا اللاتينية، ويتحدثان عن تجارب المقاومة والكرامة، نكون قد حققنا غاية المهرجان: أن نمنح الثقافة بعدها الكوني، لا التزييني”.
وتستطرد التازي في تحليلها لما تسميه بـ”التحول السيادي في الثقافة”، موضحة أن المهرجان أصبح نموذجًا يحتذى به في ربط الثقافة بالتنمية، وفي دعم الصناعات الإبداعية التي بدأت تفرض نفسها كرافعة اقتصادية بديلة، قادرة على خلق الثروة وفرص الشغل، إن تم استثمارها سياسيًا ومؤسساتيًا.
وتقول:“نحن أمام لحظة مفصلية. الثقافة اليوم تُقاس بقيمتها الاقتصادية والدبلوماسية، تمامًا كما تقاس بالقصيدة أو الأغنية. من يملك السردية يملك التأثير، والمغرب يملك سرديته، فقط عليه أن يثق بها أكثر.”
وحول التعاون الدولي، تبرز التازي أهمية برنامج “بيركلي في مهرجان كناوة”، الذي يدخل عامه الثاني بشراكة مع كلية بيركلي الأمريكية للموسيقى. البرنامج، كما توضح، ليس مجرد ورشة أكاديمية، بل مشروع استراتيجي لتأهيل المواهب الموسيقية المغربية وربطها بشبكات التكوين والإنتاج على الصعيد العالمي.
“في الدورة السابقة استضفنا 44 مشاركًا من 10 دول. هذه السنة، سيصل العدد إلى 74 من 24 دولة. هذا يعكس ليس فقط البعد الدولي للمهرجان، بل أيضًا المكانة المتزايدة لفن كناوة في الخريطة الأكاديمية العالمية.”
وتختم نايلة التازي حوارها بابتسامة واثقة:“كل ما نفعله في الصويرة، هو أننا نمنح للثقافة المغربية مساحة لتتكلم بطريقتها. نمنح لإفريقيا صوتًا لا يُشبه إلا ذاتها. ونُؤمن أن العالم لا يحتاج إلى المزيد من الضجيج، بل إلى المعنى. ومهرجان كناوة هو، قبل كل شيء، فعلُ معنى.”