«أرجوك مرية لا تغادري الفندق. هذا خطر»، كانت هذه عبارة إحدى ممثلات المنظمة الكندية «أوكسفام»، التي قاطعت حديثي وزميلتي اللبنانية، ونحن نرتب لزيارة إلى وسط المدينة، بعد نهاية يوم تدريبي حول المواقع الإجتماعية. ولاحقني الصوت النسائي المرتجف نفسه على الهاتف، «عديني أنك لن تغادري غرفتك…»! كنت أطل من شرفة الفندق، الذي تعرض لتفجيرات ما بات يعرف بالأربعاء الأسود في الأردن، سنة 2005 وتبنتها القاعدة، وكان بي فضول صحافي لمعرفة ما الذي يقع في الشارع؟ وكيف تحول الغضب الشعبي بالأردن، وقد تأرجح منذ بداية الحراك السياسي وهبوب نسمات الربيع العربي إلى مد وجزر، لم يرتفع سقفه عن الإصلاح من داخل النظام، إلى المطالبة بخلع الملك؟ وصلت إلى عمان بعد منتصف ليلة 11 نونبر. كانت هادئة تماما، أتذكر اللقاء الذي خصني به شخصيا سفير المملكة الأردنية في المغرب ليسلمني جواز السفر، مختوما بالتأشيرة، ليحدثني عن الإصلاحات في المملكة الأردنية، بما فيها حل البرلمان والتحضير للانتخابات التشريعية، التي كانت مرتقبة في يناير 2013، ومنذ سنة فقط زرت عمان ولم يتردد كل من التقيتهم، من سائق الطاكسي إلى النادل، وصولا إلى بائع الحلوى المتجول في «الكاب تاون» في القول:»إننا نحب الملك، ولا نطلب منه أكثر من أن يتخلص من بطانة السوء والمحيطين به من الفاسدين…» تذكرت مضمون تلك العبارة، وأنا أقلب أوجه ما نقلته قناة الجزيرة مباشر يوم الثلاثاء 12 نونبر الجاري من شعارات رددت بقلب «دوار الداخلية» حيث اندلعت الأحداث:»الشعب يطالب باسقاط النظام..ارحل ارحل يا عبد الله». وما هي إلا ثوان حتى وجدت نفسي في الطريق إلى دوار الداخلية! «دوار الداخلية» ممنوع الساعة تشير إلى الثامنة مساء من يوم الأربعاء 14 نونبر 2012. لا شيء ينبئ بحالة الطوارئ في «الدوار» الرابع والخامس والسادس ومجموعة من الشوارع بقلب العاصمة الأردنية، لعلها الرغبة في تفادي سكب المزيد من البنزين على النار وعدم استفزاز المواطن الأردني بالتواجد الأمني… لكن، بمجرد ما اقتربنا من الجسر الذي يؤدي إلى «دوار الداخلية»، ظهرت البذلة الأمنية والسلاح في وجه المارة، وقد توزعت الفرق الأمنية بمختلف تلاوينها فوق وتحت، يمنة ويسرة وفي كل الأركان، وجميعها تطلب منك قسرا أن تغير وجهتك، سواء كنت راجلا أو راكبا، لأن الوصول إلى «دوار الداخلية» ممنوع. ستسألون لماذا «دوار الداخلية»؟ إنه منطقة حساسة في رحم العاصمة الأردنية. اسمه الحقيقي ميدان «جمال عبد الناصر»، ولأنه يقع بالقرب من وزارة الداخلية طغى اسمه العرفي على اسمه الرسمي. إنه مدار حساس لأنه الجسر الضروري الذي يعبره رئيس الوزراء وكل المسؤولين من نقطة إقامتهم في اتجاه مدار خاض من أجله أبرز الوجوه السياسية، منذ ميلاد الحراك السياسي، صراعا امتد لسنتين، وكانت غايتهم أن يعتصموا بشكل دائم إلى أن تلبى مطالبهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن خراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع أجهضت كل محاولاتهم، كي لا يتحول «مدار الداخلية» إلى «ميدان التحرير». مسحتُ بالكاميرا الوجوه الأمنية إياها، التي تختفي ملامحها وراء حلكة الليل، وهي تقفل المنافذ من وإلى «دوار الداخلية»، وإن اعتقدت، أو لعله هيئ لي، أن بعضا من رجال الأمن لمحوا كاميرتي، وهي تلتقط بعض اللقطات بصعوبة في الليل، لكنهم قد يكونوا تفادوا ملاحقة السيارة التي كنت أركبها، مع العلم أن كاميرا «سكاي نيوز» تعرضت للمنع، وعدسات أخرى طالتها يد الرقابة بعد أن أخذت الأحداث منحى تصاعديا في عمان. الأردن تغلي، وكلما توغلت جنوبا، أو شرقا ترتفع درجة الحرارة، لم يعد الحديث عن الجرحى والمعتقلين، وإنما تعداه اإلى لقتلى وتبادل إطلاق الرصاص بين المواطنين والدرك! فما الذي جرى؟ بدأ كل شيء يوم الثلاثاء 12 نونبر 2012، حينما أطل رئيس الوزراء عبد الله نسور، وهو رجل تقنقراط من الطراز الأول على الساعة الثامنة مساء على شاشة التلفزيون، كلف بالإعداد للانتخابات التشريعية، ليعلن عن رفع الأسعار، وبنسب كبيرة وغير مسبوقة للأردنيين (أنظر حجم الزيادات أسفله). الآلية التي تحدث عنها نسور تضمنت التخلي الكامل، ولأول مرة في تاريخ الأردن، عن سياسة دعم السلع والخدمات الأساسية مقابل تعويض نقدي رفضه الشارع، واعتبرته المعارضة بائسا ولا يفي بالغرض. بعد 20 دقيقة فقط عن إعلان رئيس الوزراء في فترة الذروة التلفزيونية عن نبأ الزيادة في الأسعار، تجمع قرابة 2000 ناشط سياسي في منطقة «دوار الداخلية»، وكانت في أيديهم لافتات جاهزة من بينها تلك التي كتب عليها بأحرف بارزة «يسقط النظام» وارحل يا عبد الله». لنا أن نتساءل كيف كانت العشرون دقيقة كافية لتحضير اللافتات والوصول إلى «دوار الداخلية» للاحتجاج، بما فيها لافتة تطالب بخلع الملك؟ لكن، إذا علمنا أن الرفع من الأسعار سبقه تحضير نفسي عكسه استباق الصحافة إلى نشر الخبر والتعليق عليه، ستتضح الصورة أكثر، لاسيما وأن رئيس الوزراء ضرب للأردنيين موعدا استثنائيا أعلنت عنه القناة الرسمية. إذا، المتظاهرون الألفين سبقوا خطاب رئيس الوزراء إلى «دوار الداخلية»، ولذلك ما كاد ينتهي من تصريحه، حتى رفعت أبرز الوجوه التي تمثل ما يعرف في الأردن بتنسيقيات الحراك، شعار إسقاط النظام، وبالمقابل كانت عناصر الأمن في عين المكان، ولأول مرة وفي خطوة غير مفهومة، لم يتدخل الأمن لتفريق المتظاهرين، وظلت كاميرا الجزيرة متبثة إلى غاية الخامسة فجرا، وهي تنقل هتافات المتظاهرين المطالبة بالإطاحة بالنظام. هرب الديكتاتور بنعلي إلى السعودية، والرئيس المخلوع مبارك يرقد في المستشفى، وتمت تصفية القذافي جسديا، ولم يغادر عبد الله صالح البلاد إلا محروقا، والدماء لازالت تنزف من غرفة عمليات الرئيس السوري بشار الأسد، واستبق الملك محمد السادس، بعد خطاب 9 مارس والدستور الجديد إصلاحات امتصت الغضب بذكاء، وإن كانت لم تحتويه تماما، ولم تستجب لكل المطالب الشعبية، ولم تنجو الكثير من السفن.. خلال هاتين السنتين، تردد كثيرا الشعار نفسه في الأردن، وبشكل لافت:»اص اص ..اصلح أولا بنكملها»، وبصيغة أخرى خيّر المتظاهرون الملك بين الإصلاح والمطالبة بإسقاطه، لذلك يعد الثلاثاء 12 نونبر تحولا أساسيا في تاريخ الحراك السياسي في الأردن.
حصاد فبراير
- 10:00
- 23:00
- 22:30
- 21:30