الرئيسية / قصاصات / عبد الرفيع رويحن يكتب.. هذيان في الجبل

عبد الرفيع رويحن يكتب.. هذيان في الجبل

قصاصات
عبد الرفيع رويحن 26 أغسطس 2021 - 21:20
A+ / A-

شمهروش… مصدر تخويفنا في الصغر ينبعث… يصبح مصدرا وجلا عميقا دفينا في مكان مجهول في مخيلتي … اسم يتسلل إلى شعوري فيفجر غضبي وحنقي وتمردي على القدر… لم أعرفكما ولكن أصبح يربطني بكما كره “شمهروش” عبر الزمن … كره إلى الأبد …

صعود أعلى جبل في البلد راودني طويلا… طويلا جدا قبل اغتيال إنسانيتكما… لم يخطر لي أن تَسلُق جبال الحجارة سيجبرني لأدوس بحذائي الأرض حيث برحتما بدون سابق تخطيط … الواقعة المظلمة، رأيت صورها بدون إرادة مني، تطفو في وعيي، تعود إلى الركود في مكان ما بداخلي حسب أهواء العقل والزمن… ثم حان ىوان ارتقاء الجبل، وقت مجابهة الواقع… حذرني البعض، حاول أن يثنيني، حرك السكين في جرح نحركما الغائر لينهي حلم الرحلة إلى القمة … لم أكن في حاجة لمن يذكرني بكما، فقد تسربتما إلى الخلايا الرمادية وسكنتما مسام الجسد! فقط كنت أنسى… أتناسى… يهيأ لي أني نسيت… الآن لا سبيل للمراوغة، فالطريق إلى القمة تؤدي إليكما لا محالة…

نقترب خطوة خطوة من “شمهروش”…أغالب نفسي كي لا أعود من حيث أتيت…خشيت نفسي من نفسها أو على نفسها … تقاذفتني موجات أحاسيس متداخلة، متناقضة، انتابني دوران التيه في يم الحزن، الكره، الغثيان… كبحت عدة مرات خباطي وصراخٌ مندفع من أعماق جوفي” لا لا لا… أرجوك تعقل… لا تزعق في وجه المتسلقين ليتوقفوا عن الصعود، لا تلومهم على أنهم لم تنتابهم أعراض الإنسانية كما تنتابك الآن … ربما لا يعرفون، يعرفون ويتغاضون … لا شيء! لا كلمة أو جملة ولو إيعاز أو إشارة إليكما، لكني رغما عنهم شعرت بطيفكما يسلك نفس الطريق … سمعت صدى ضحكاتكما وكلمات تشجيع بعضيكما للسير إلى الأعلى … إلى نقطة اللارجوع…

استيقظت من غفوتي … تعرُفي على المكان تطلب بعض الوقت … إننا في شمهروش ! … إنكما لم تحضرا إلى هنا …لم تناما بكل اطمئنان بجانب أحد حيطان الطوب والتبن… قبل إغماض عينيكما… لم تشكا لحظة في أمان وطن بأكمله، شعب برمته، بلد بقوامه …. لا … لم يراكما أهل القرية ولا أصحاب المقاهي الشعبية البسيطة المغطاة بالقصب… لم تأتيا إلى “شمهروش” و لم تنما على صوت المياه المتدفقة من الجبل وخريرها من تحت القنطرة الإسمنتية…على بعد مترين عن المكان الذي لم تقتلا به… أنتما لم توجدا … لم تُنجب أحدكما في الدانمارك والأخرى في السويد … ليس من سبب يبرر اعتذاري لكما … أحدنا غير موجود…. ربما أنا مجرد فكرة مجرد ووهم وأنتما فعلا كنتما هنا وربما العكس … في كل الأحوال لم يجمع بيننا نفس المكان ونفس التربة ونفس الزمن!

لم أتساءل كيف وصلنا؟ كم قضينا من الوقت؟ أكلنا؟ شربنا؟…؟ انتفضت واقفا… لبست حذائي بعجلة وحقيبتي على ظهري… لم أستخبر عن مكان اغتيالكما فأنتما مجرد سراب … وإلا! ! ! أين نصب ذكراكما رسم باسمكما؟ أكاليل الزهور التي تغطي ما تبقى من أثار دمكما الأبيض؟ دم حملتماه من شمال الكرة الأرضية ليتدفق في أرضنا الآمنة… الحياة روتينية في ” شمهروش”… القبة البيضاء الكبيرة لا زالت في مكانها تطل على المساكن والمقاهي الشعبية القليلة… لابد أنها قبة صلبة وإلا لكانت قد انهارت بفعل قسوة الجزر … صلبة مثل من يعيشون في دائرتها … عيشة راضية… لم يسمعوا صراخكما … لم يروا وحوشا شبه آدمية تتربص بكما … لم يفكروا فرادى او جماعة في تمتيعكما بكرمنا الطائي، بكأس شاي أو طبق كسكس… الاحتماء بمنزل عوض المبيت في الخلاء… لا تستحقان ذلك فلستم منهم ولا منا… لباسكما! تجرؤكما على السفر بدون مرافق! الباقي ليست له اهمية… إنه القدر…

استعجلت المرشد و صاحب البغل أن نسرع بالرحيل … نتخلص من” شمهروش ” … نتركه لأهله … نتركهم كما تركوكما للمجهول.. ستة كلومترات تؤدي إلى “الملجأ “…الشمس الحارقة … الطريق الملتوية الصاعدة…أغالب نفسي في أن لا أعود إلى “شمهروش”… أن لا ابحث عن المكان الذي لم تواجدا به … أن لا أتيمم بترابه الذي لم تطأه قدميكما … أؤذن، أرتل، أقرا صلاة الجنازة والقداس … اصرخ من جوف حنجرتي بالتكبير و التهليل. لا إنهما لم تحضرا …وقتلهما ليس صدقا … محاضر الدرك، المعاينات، أخبار الصحف، الشبكات الاجتماعية، المحاكمة، الإعدام ومرافعة صديقي محامي العائلتين، لا شيء من هذا صحيح … اطمئنوا يا أهل” شمهروش ” فقد مررت من هنا وتأكد لي أن الأمر أضغاث أحلام!

توهم وجودكما يرغمني على الاستمرار في الصعود … تركت مرافقي والمرشد ورائي بعيدا… المشي فوق الأحجار المسننة المؤدية إلى المجهول… قساوة الطريق والصعود اللامنتهي، عقابي المستحق! كيف لي أن توهمت أنكما ضحية جرم مسخ؟ أن تنجب أمهات وطني من يسرق الأرواح تحت جنح الظلام في شمهروش؟

وصلت إلى الملجأ …بقي عقلي معلقا في الجبل في مكان ما قبل القبة البيضاء أو بعدها، لا أعرف… هل يمكن للشيطان أن يرقد تحت قبة بيضاء… حاولت أن استجمع ما بقي من روابط مع الواقع … لماذا تم الإبقاء على القبة البيضاء والمقاهي والأكواخ؟ … الصعود ما بين “إمليل” و”شمهروش” مليء بالزوار، رجال، نساء، شباب… راجلون، يمتطون البغال…مهرولون، متثاقلون.. حسبتهم يقصدون قمة الجبل! أغلبهم يلبسون الجلابيب، يحتذون “بلغة” “مشاية” أين أحذية التسلق؟ سأفهم بعد أن “شمهروش” قصدهم … شميعات وبعض الدراهم لتحقيق مبتغاهم … الزواج، الشفاء، المال، السعادة، ورفع “التابعة”… هي الديمقراطية وحرية المعتقد تشفع لشمهروش… لا يجوز أن يمحى من خريطة الوطن … لا ضير أن الاسم أصبح مقرونا باسمكما… ذاكرة الوطن والبشر تمحى بسرعة ومياه الشلال أزالت ما قد بقي من قطرات دمكما على التراب ومن روائح الكراهية العالقة على غصون القصب.

تسلقت الجبل الوعر …لم أعجز … لم يندحر طموحي ولا خفتت همتي … بلغت القمة واقتدرت النزول بأضرار جانبية بسيطة … استرجعت أنفاسي وأعدت وعي إلى زمانه.. الشك يراودني … أحقا أ كون صعدت ونزلت؟ من أين لي القوة والإرادة لأكون من القلائل الذين لامسوا القمة هذا اليوم؟ قفز الجواب إلى ذهني بشكل بديهي … أنتما من جرآني لكي لا أتوقف عن الصعود… بكاؤكما، خرير حنجرتيكما، تدفق السائل الأحمر الممزوج بقطرات البطش… أجبروا رجلاي ليخطوا نحو القمة! كيف لي ان أشكركما؟ أن اعتذر منكما نيابة عن الوطن؟

في طريق العودة وفي غفلة مني… اقتطعت جزءا من لهاثي وحبيبات من عرقي، نثرتها في الهواء في كل الاتجاهات، نفخت فيها لكي تتحاشى القبة البيضاء …ربما إذا أتيتما فعلا إلى شمهروش سينبهكما أثر هذياني إلى ضرورة العودة من حيث أتيتما …و يا ليتكما لم تأتيا يوما !
السمات ذات صلة

مواقيت الصلاة

الفجر الشروق الظهر
العصر المغرب العشاء

حصاد فبراير

أحوال الطقس

رطوبة :-
ريح :-
-°
18°
20°
الأيام القادمة
الإثنين
الثلاثاء
الأربعاء
الخميس
الجمعة