هي ملكة انطلقت من تافيلالت وحكمت الصحراء، وروّضت الرجال، وقادت الحروب وأورثت النساء النسب. تتقاطع الروايات الشفهية وأهازيج نساء الطوارق والمقالات العلمية لرسم صورة عن الملكة تينهينان، التي يعتبرها الكثيرون ملكة غامضة وملغزة. غادرت تافيلالت، الواقعة على باب صحراء المغرب الحالي، رفقة خادمتها «تكما»، واستقرت في «الهكار»، التي تقع في صحراء الجزائر الحالية. لذلك فاسمها «تينهينان»، وهو مرادف لـ«القادمة من بعيد». تقول الكثير من الكلمات التي تتغنى بها إنها كانت امرأة جميلة، طويلة القامة، كاريزماتية، قوية الشخصية، وإن جمالها، الذي روي عنه الكثير، كان لا يقاوم. ما الذي جعل تينهينان تغادر تافيلالت؟ هل هو الصراع مع قبيلتها أو بعض من أفرادها، أم هو الطموح السياسي والتخطيط للدفاع عن الأرض والوطن، على اعتبار أن إفريقيا الشمالية كانت، في القرن الرابع، مسرحا لثورات ضد سلطة الرومان، الذين كانوا يستولون على سواحل المنطقة؟ كيفما كان الحال، على محيا ومسار تين هينان تظهر ملامح مشروع سياسي، وتنجلي الغيوم عن قسمات التمرد على القبيلة والأهل، والقدرة على اتخاذ القرار والذهاب به إلى أبعد مدى. حزمت تينهينان، التي ستصبح فيما بعد الأم الروحية للطوارق، حقائبها وقطعت الصحراء الأكثر خطورة في العالم، وقهرت أخطارها المتحركة، وهذا يعني أنها وخادمتها «تاكما» كانتا على اطلاع ومعرفة بالنجوم وتأويلها، وعلى دراية واسعة بالنقوش الصخرية التي كانت بمثابة ألغاز، فمن دونها لا يمكن الاهتداء إلى بؤر أو نقط الماء ومختلف الأودية والواحات والمراعي. لم تكتف تينهينان بقطع الصحراء الوعرة، بل كانت لديها القدرة على خلق مجتمع جديد ازدهر بتطوير العلاقات التجارية مع القوافل التي تقطع الصحراء. لا بد من التأكيد أنها خلقت أول مجتمع أمومي، بينما كانت تعم الأبيسية كل شمال إفريقيا. فلم يتمكن بعد المؤرخون من تحديد أصل الأمومية عند طوارق «الهكار»، لكن من الواضح أن بصمات المرأة القادمة من بعيد حاضرة وبقوة. فرغم أن الرجال كانوا، في النصف الثاني من القرنين الرابع والخامس، محاربين بارعين، فقد لاحظ المؤرخون أنهم كانوا يخفون وجوههم باستعمال اللثام الأزرق، وقبل أن يقابلوا امرأة، يضعون الكحل والسواك، ويتفننون في تجميل ضفائرهم الطويلة، بينما كانت النساء هن من يخترن الشريك ويمنحن اللقب والنسب لأبنائهن وذريتهن، وينقلن الإرث في خط أمومي وليس أبيسي. الأكثر من هذا، كانت النساء يتدخلن في كل شيء، ويسيطرن على التجمعات القبلية، بما في ذلك مناقشة وإدارة دفة الحرب والسلم، وحتى إذا انتخبت القبائل رجلا على رأسها، فإنه لا يكون إلا ممثلا للملكة «تين هينان»، فأي تأثير ذلك الذي لعبته تينهينان لتثبيت النظام الأمومي عند الطوارق، مادام المؤرخون لم يحددوا أصله خارج هذا النطاق؟ عندما تم التنقيب في قبر يُعتقد أنه ضريحها، عثروا على شاهده الذي كتب عليه بالحرف: «يا أحفادي، إن ذهبي مخبأ في رأسي»، لكن المؤرخين يؤكدون أنه لم يتم العثور على مجوهراتها عند التنقيب في الأثريات. ومن جهة أخرى، يؤكد الخبراء أن الهيكل العظمي الذي كان يرقد في الضريح، والذي يعتقد أنه للملكة تينهينان، يبدو أنه هيكل رجل، لأن طوله، حسب المنقبين، يبلغ مترا و75 سنتيمترا، ويتجاوز، حسبهم، المقاييس التي تعرف عليها هياكل النساء، لكنهم عثروا على أثر داء «لومبارتوس» وهو مرض يصاب به صاحبه أسفل الظهر، ويجعله يعرج، وهذا مؤشر يتقاطع مع قرائن تاريخية تؤكد أن الهيكل للمرأة القادمة من بعيد. قال ابن خلدون عن الطوارق إنهم أبناء «تيسكي»، ويعني أبناء المرأة العرجاء، وهذا يتطابق مع ما توصلت إليه أبحاث الحفريات. دليل آخر على أن الحقائق حول الملكة ظلت مبهمة، تحليل الهيكل العظمي الذي يظهر ضيقا واضحا في الحوض، ما يؤكد أن صاحبته لا يمكنها أن تنجب، هذا في الوقت الذي يحكى أن تينهينان أنجبت البنات. المؤرخون لا يفهمون ما الذي يجعل الملكة تينهينان تتربع على عرش الذاكرة الجماعية عند الطوارق، لكن يبدو أنها تركت الكثير من الألغاز في قبرها على خبراء الأركيولوجيا أن يقتفوا أثره… على كل حال، شعب الطوارق بأكمله يدينون لتينهينان بالولاء، ولا تهمهم ألغازها، ويعتبرونها جدتهم وأمهم الروحية.
تينهينان.. حكمت شمال إفريقيا وأورثت النساء النسب
الوجه الاخر