فرّ إدريس الأول من الاضطهاد الذي كان يمارسه الحكام العباسيون في الشرق الأوسط على سلالة الرسول (ص) ومؤيديهم سنة 788 ميلادية، ووجد ملجأ في وليلي، وسرعان ما تجمع الناس حوله، وقد أرقت خطواته السياسية، كزعيم سياسي وديني بايعته العديد من القبائل في المغرب، بال الخليفة العباسي، هارون الرشيد، الذي بعث من يغتال السلطان إدريس الأول سنة 791، بعد أن ذاع صيته ووصل إلى بغداد. جمع راشد، مستشار السلطان الذي مات بالسم، الأعيان الأمازيغ، وألقى عليهم الخطاب التالي: «إدريس لم ينجب أولادا، لكنه ترك خادمته كنزة الحامل في شهرها السابع. سوف ننتظر لحظة المخاض، حتى إذا أنجبت ولدا، سنؤمن له تربية حسنة، وعندما يبلغ سن الرشد سنبايعه، كي نحافظ على شرف السلالة النبوية، وإذا كان المولود طفلة، عليكم أن تقرروا آنذاك ما ستفعلونه». اختلفت الروايات حول كنزة، هناك من يقول إنها ابنة الوزير عبد المجيد بن مصعب وزوجة الراحل إدريس الأول، وهناك من يجزم بأنها إحدى جواريه. كيفما كان الحال، ستنجب كنزة ولدا سيحمل لقب إدريس الثاني. وهنا يبدأ دخول كنزة إلى التاريخ. تسلم إدريس الثاني الحكم سنة 804 ميلادية، ولم يكن عمره يزيد على الإحدى عشرة سنة. ومن جديد، حاول هارون الرشيد الخليفة العباسي تسميم إدريس الثاني، وكذا راشد، وصيه وولي أمره الشرعي، لكن كنزة أمنت حياة إدريس الثاني. حرصت كنزة على أن تطعم ابنها إدريس الثاني بيديها، خوفا من تسميمه، وتابعت تربيته ودراسته عن قرب، وهذا دور إضافي اضطلعت به بالإضافة إلى أدوار سياسية ستتضح ملامحها كلما ازدادت المراحل السياسية التي عاشتها تعقدا. بعد تولي إدريس الثاني الحكم، كانت كنزة تقدم لابنها النصائح في تسيير شؤون الدولة، وهي من اختارت لابنها زوجته، حسناء ابنة سليمان بن محمد الناجي، وهكذا أصبحت له مستشارتان: الأم والزوجة. لم يعترف المؤرخون كثيرا لكنزة بالدور السياسي الذي اضطلعت به إلى جانب ابنها إدريس الأول، لكنهم يذكرون أنها لعبت دورا سياسيا سلبيا مع حفيدها محمد بن إدريس، لأنها نصحته، بعد وفاة ابنها إدريس الثاني، بإشراك أشقائه الاثنا عشر في الحكم. فما الذي جرى بالضبط؟ وهل يعقل أنه لمواجهة ثورات القبائل الأمازيغية التي سعت إلى نيل استقلالها، نصحت للا كنزة حفيدها السلطان بأن يعجل بلامركزة السلطة، وأن يفوض جزءا من سلطاته إلى حكومات محلية تابعة لحكومة فاس؟ المؤرخون يعتبرون نصيحة الجدة لحفيدها بمثابة النار التي كان يمكن أن تشعل لهيب انقسام المملكة، وتؤدي إلى قيام حروب قبلية، لاسيما أن السلطان إدريس الثاني كان اختار، سنوات قبل وفاته، ابنه محمد خلفا له، مبعدا باقي أبنائه الاثنا عشر عن ولاية العرش، تفاديا للصراعات الدموية على السلطة. لم يسمَّم إدريس الثاني، كما خطط لذلك الخليفة العباسي، لكنه مات بشكل فجائي سنة 828 ميلادية، حينما بلع حبة عنب علقت في حلقه، وقد حرصت والدته على إقناع حفيدها بإشراك إخوته في السلطة حتى لا تضعف الدولة الإدريسية أمام تكالب أطماع القبائل الأمازيغية. إذا كان الأدارسة هم الذين وضعوا أسس الدولة المغربية، فإن كنزة هي التي مكنتهم من الاستمرار، فقد أمّنت استمرارية الملكية، أولا عبر إنجابها لابنها إدريس الأول، الذي ربته وسهرت على أن يبقى على قيد الحياة، وألا يتناول السم الذي دسه له الخليفة العباسي، وحينما اهتدت إلى فوائد لامركزة السلطة لمواجهة أطماع القبائل المتمردة.
ملكات حكمن المغرب: كنزة.. ضمنت استمرار الدولة المغربية
الوجه الاخر