“معظم الناس لا يسخر إلا من أكثر الأمور جدية”. “السخرية، ذلك البريق الإلهي الذي يكتشف العالمَ في التباسه الأخلاقي، والإنسانَ في عجزه العميق عن أن يحكم على الآخرين. السخرية: نشوةُ نسبيةِ الأشياءِ البشرية، اللذةُ الغريبةُ التي تتولّد عن اليقين بأن لا يقين” (ميلان كونديرا).
ليست منصات التواصل الاجتماعي أساسا محطات إخبار، أو حتى تعليقا مباشرا على الأحداث. صحيح أنها تحاول أن تواكب الأحداث في يوميّها وجزئياتها، إلا أنها سرعان ما تبتعد عما هو “رسمي”، وما هو “معطى”، وذلك بما تروّجه من أشكال السخرية، اعتبارا بأن الأحداث الفكاهية، من نكات ودعابات وطرائف، هي لحظات غير “رسمية” من التواصل الاجتماعي، تتيح، بطريق غير مباشرة، إعادة النظر في التمثّلات الاجتماعية، وفي التجانس السياسي للمجتمع في حياته اليومية.
لذا، فإن متابعة فضاءات انتشار السخرية هاته، قد تتيح فهم آليات القبول بالقيم المشتركة بين أفراد المجتمع، حيث تتجسد في الممارسات وفي الأجساد، وليس فقط في التصورات.
السخرية l’humour نوع من الذكاء الذي يقدم صورة تهكمية عن الوضع الاجتماعي، ويبرز الجوانب الكوميدية أو العبثية أو الغريبة فيه. يمكن أن يتم نقل عنصر السخرية من خلال تصريح، أو بمجرّد إشارة صامتة، أو بأيّ وسيلة تتيح إقامة علاقة بين “الوضع الاجتماعي الكلّي” الذي يحدث فيه الحدث الفكاهي وبين الحدث نفسه. لذا، غالبا ما تعتمد السخرية توظيف التناقض بين الموقف الفكاهي والواقع الأوسع الذي يشمله.
تتخذ السخرية أشكالا متنوعة، فقد تكون مجرد “نكتة” blague تتخلل الخطاب، وتجد سبيلها بين ثناياه، حيث يتم الإعلان عنها وفصلها عن بقية الحديث من طريق عبارات نحو: “هل سمعت هذه؟”. أما المزحة plaisanterie فهي أكثر حرية من الناحية الشكلية، ويمكن أن تأخذ بدورها شكل تصريح أو فعل.
ذلك أن إحدى خصائص السخرية هي أنها لا تقتصر فقط على الكلمات أو التصورات. لا ينبغي أن ننسى علاقة لفظ Humour باللفظ Humeur الفرنسي الذي يدلّ على المزاج. السخرية تشمل أيضا الأجساد التي تضحك وتتحرك، أو على العكس، تتوتّر إذا فشل الحدث الفكاهي.
في الأحوال جميعها، فإن الأحداث الفكاهية وسيلة للأشخاص “للخروج” من الوضع الجاد للواقع و”الالتزام الكامل” به، فهي نوع من “فتح قوس سياسي”. الوظيفة الأولى للسخرية تتمثَّل إذن في إرجاعنا إلى القواعد والممارسات التي نتشاركها، وإلى عالم مألوف لدينا بكل ما يحتويه من جمال أو قبح، بعد ذلك، تُظهر هذه الممارسة كيف يمكن أن تكون حالتنا مختلفة، وكيف يمكن تحسين “العيش المشترك”.
لذا فإن سلاح السخرية الأساس هو قدرتها على إبراز الطابع العرَضي المطلق للطقوس الاجتماعية التي نتشارك فيها، و”عشوائيتها”. لذلك، هي شكل متناقض من الخطاب والفعل الذي يعاكس توقعاتنا، مما يثير الضحك من خلال انقلابات دلالية غير متوقعة، والتواءات وانفجارات، ورفض للخطاب اليومي الذي يُبرز حياتنا الفعلية ويعكسها. يلخص أحد علماء الاجتماع كل هذا بالتأكيد أنّ “السخرية تطرح تصورا آخر للإجماع المشترك الممكن le sensus communis، يقوم تحديدا على الخلاف المشترك dissensus communis، الذي هو مغاير للإجماع السائد”.
يمكن القول إذن إن السخرية السياسية تبرز قوة المراجع الثقافية المشتركة لمجموعة ما (الإجماع المشترك)، وفي الوقت نفسه، ما تعتبره هذه المجموعة غير مقبول وما ترغب في تغييره (الخلاف المشترك)، وذلك دون الإشارة بالضرورة إلى اتجاه محدد للتغيير. فالسخرية لا تمتلك خطة سياسية، ولا يكون في نيتها أن تنجز أيّ برنامج. إنها ليست وعظا، ومع ذلك، هي تكشف عن حساسية “يوتوبية”. فهي تحاول أن تعلو بالواقع الفعلي، من غير أن تتبيّن (وتُبيِّن) ما “ستعلو” نحوه وتصبو إليه.
يرى جيل دولوز وفيليكس غواتاري في كتابهما “ما هي الفلسفة؟” أن الفلسفة تصبح سياسية فقط من خلال اليوتوبيا، فتقود إلى أقصى حدّ نقد عصرها. فاليوتوبيا لا تنفصل عن حركة لا نهائية: “يعني لفظ “يوتوبيا” في اشتقاقه اللغوي “الهجر المطلق للمكان”، ولكن دائما عند النقطة الحرجة حيث تتصل بالوسط الحاضر المتعلق بها، وخاصة مع القوى المقموعة في هذا الوسط”.
وكان دولوز، قبل ذلك، قد أخذ، في كتابه “منطق المعنى”، مثال سخرية الفيلسوف الكلبي ديوجين لتمييزها عن التهكم السقراطي، وعن الإصرار الأفلاطوني لبلوغ عالم المثل. عندما ألقى ديوجين ديكا منزوع الريش على أفلاطون الذي وصف الإنسان بأنه “ثنائي الأرجل بلا ريش”، كان الفيلسوف الكلبي يمارس السخرية من خلال زعزعة “المعاني المحنطة” للغة المثالية. تتمثل السخرية، وفقا للفيلسوف الفرنسي، في فضح “الثنائية الزائفة الأفلاطونية بين النموذج والنسخة عن طريق استبدال معاني التسميات والعروض والاستهلاكات والتدميرات الخالصة إنها السخرية ضد التهكم السقراطي”. لا يقتصر الأمر على إظهار جواز النظام الاجتماعي وطابعه العرضي، بل أيضا على المعاني والتصورات العادية التي نكوّنها عن الواقع الاختباري. إذا كان الفيلسوف سيمون كريتشلي Simon Critchley يرى أن السخرية “هي شكل متناقض من الخطاب”، فإن جيل دولوز يرى أنها تمثل بشكل أوسع “فن المفارقات”. وهي بهذا، تتميز عن التهكم لأن التهكم فن الإحراج، فن نصب الشَّرك وإيقاع الضحيّة، فن التحايل بل الاحتيال، فن اللعب بالألفاظ وتلوينها، فن الإرباك، فن توليد الأُحْروجات dilemmes. أما السخرية فهي فن توليد المفارقات paradoxes.
الأُحْروجَة تعثّر منطقي، أما المفارقة فهي تيه أنطولوجي. لذا فإن السخرية، بما هي مجال المفارقات، هي في الآن نفسه مرح ومأساة، سكون وحركة، معنى ولا معنى، شك ويقين، عقل ولا عقل. لا يعني ذلك على الإطلاق أنها استهتار وموقف عدمي. ومع ذلك، هي لا تعترف للأمور بالضرورة التي تدّعيها، إنها ترى أن الأمور محكومة دوما بـجواز، أي أن إمكانها دوما أن تكون غير ما هي عليه. فبينما يشعر المتهكم أنه يتكلم ويكتب ويرسم من موقع الحقيقة والخير والجمال، فإن ما يطبعه أخلاقيا هو الثقة الزائدة بالنفس، ومعرفيا هو الوثوقية والتمسك بالرأي، وجماليا الإيمان بثبات القيم وسكونها. أما الساخر فلا يرتاح إلى نفسه، وما ذلك إلا لأنه يضع “الوضعية البشرية” برمتها موضع سؤال.
وهكذا تفقد الأشياء، في عين الموقف الساخر، ضرورتها المنطقية، وأسسها الأنطولوجية، فتكشف عن هشاشتها الفعلية، وتسترجع نسبيتها. لذا فما يهم الساخر ليس الإقناع ولا التأسيس، وإنما مقاومة الفكر الجاهز، والتحرّر من عنف البداهات، وتلقائية الواقع الاختباري، والوقوف على تعقّد الأمور وتشابكها، ودفعها لأن تنفضح، لأن تفضح نفسها، وتكشف عن سرّها الذي لا سرّ من ورائه.
تتولد السخرية عما يسميه سيغالين “صدمة التعدد”، تلك الصدمة التي لا تكتفي بأن تفتح أعيننا عما ليس إيانا، وإنما تحدث فينا رجّة تجعلنا ننتبه إلى الآخر فينا، فتحُول بيننا وبين كل ثقة زائدة بالنفس، وكل وثوقية واعتقاد راسخ، وكل ما من شأنه أن يجعلنا نتهكم من الآخرين.
مجمل القول، فإن السخرية، مثل الفلسفة السياسية، تأتي لتُحدث قطيعة مع الرابط الذي يربط الإنسان بوجوده غير المدروس، وفي كثير من الأحيان لا تتبقّى إلا هي سبيلا للانفصال عن الواقع، وممارسة موقف نقدي تجاه تعقّد الآليات التي تحكم النظام الاجتماعي.