الرئيسية / رياضة / رحل بوهلال وبقي السؤال: لماذا يودّع الجيش الملكي كباره دون وداع؟

رحل بوهلال وبقي السؤال: لماذا يودّع الجيش الملكي كباره دون وداع؟

رياضة
راوية الذهبي 05 أبريل 2025 - 13:30
A+ / A-

لم يكن خبر وفاة محسن بوهلال صباح هذا اليوم مجرد خبر رياضي عابر، بل لحظة موجعة من لحظات الغفلة الجماعية. لحظة رحيل جديدة لأحد وجوه الكرة الوطنية الذين صنعوا ما يكفي ليُحتفى بهم في الحياة، لكنهم يرحلون غالبًا بصمت، ويُرثون بكلمات أقلّ بكثير من مقاماتهم. في رحيل بوهلال، لا نبكي لاعبًا فحسب، بل ننعى جيلاً بأكمله، ننعى مرحلةً كانت فيها القمصان تُلبس انتماءً لا عقدًا، والمدرجات تُصنع بالعرق لا بالإعلانات، واللاعبون يُربَّون ليكونوا رجالًا قبل أن يكونوا أرقامًا.

ولد محسن بوهلال في الرباط، لا شيء وقتها كان يوحي بأنه سيحمل يومًا قميص الفريق الذي كان يشجّعه من المدرجات. كان يتسلّل مع رفاقه الصغار لمشاهدة مباريات الجيش الملكي، يُصفق لخيري والتيمومي، ويراقب بإعجاب لمسات حسينة. لم يكن يملك غير الحلم، والحذاء المهترئ، والرغبة التي لا تهدأ. من هناك، من أزقة الحي، بدأت حكايته. حكاية فتى أدرك مبكرًا أن الطريق نحو القلعة العسكرية ليس مفروشًا بالمجاملات، بل بالكدّ والإصرار وموهبة لا تخطئها العين.

كان الحارس الدولي الأسطوري علال بنقسو أول من لمح فيه ما يكفي ليأخذه إلى “مدرسة كليزو”، أول مدرسة كروية منظمة في المغرب، وأحد المشاريع الطلائعية في تكوين لاعبي الجيش الملكي. لم يحتج بوهلال إلى سنوات طويلة داخل المدرسة. سنة ونصف كانت كافية ليصعد إلى الفريق الأول، في مشهد يُشبه من يختصر الطريق بحكمة الكبار لا باندفاع المراهقين. لم يكن صعوده مكافأة، بل نتيجة منطقية لمسار نظيف بدأه من القاع، وصنع فيه لنفسه ملامح اللاعب الذي لا يتكرر.

وجد نفسه سريعًا داخل تشكيلة المنتخب العسكري، يجاور لاعبين من طينة الفاضيلي وخيري وهيدامو وخسينة، في منافسة دولية من العيار الثقيل، وهناك، في قلب الدفاع، بدأ يلفت الأنظار، لا بالصراخ أو الاندفاع، بل بشيء آخر لا يُعلَّم في المدارس: الرصانة. لم يكن بوهلال مدافعًا تقليديًا. كان أشبه بقائد أوركسترا خلفية، يعرف متى يخرج، متى يصمت، متى يطلق الهجمة، ومتى يوقف الخطر دون أن يتورط في الفوضى.

انتقل بعدها ليكون عنصرًا أساسيًا في صفوف الجيش الملكي، وشارك في أربعة نهائيات لكأس العرش، تُوِّج في واحدة منها، وتوّج رفقة الفريق بلقب البطولة الوطنية. كما كان حاضرًا في أبرز المحطات القارية والدولية للمنتخب الوطني، وشارك في تصفيات كأس العالم، ونهائيات كأس إفريقيا للأمم سنة 1992 تحت قيادة المدرب الألماني وارنير. لم يكن ظهوره الإعلامي لافتًا، ولم تكن الكاميرات تبحث عنه كثيرًا، لكنه كان دائم الحضور داخل التشكيلات، لأن كل من دربه، أدرك مبكرًا أن هذا المدافع لا يُعوّض بسهولة.

بعيدًا عن الأرقام، ما جعل محسن بوهلال حاضرًا في ذاكرة كل من تابع جيلاً بأكمله، هو تلك الأخلاق العالية التي لم يتخلّ عنها لا في المباريات، ولا في التداريب، ولا بعد الاعتزال. لم يعرف الجمهور عنه سوى الانضباط والالتزام والصمت الجميل. لم يدخل في جدالات، لم يُشتَهر بتصريحات نارية، لم يركب موجة البطولات الكلامية. كان من النوع الذي يجعل الكرة تتحدث عنه، لا العكس. ولذلك ظل يلقب بـ”بيكنباور المغرب”، لا كتشبيه تقني سطحي، بل لأن شخصيته في خط الدفاع كانت مزيجًا من الهدوء الألماني والصلابة المغربية، تؤمِّن الخلف وتمنح الفريق أمانًا لا يُشترى.

بعد نهاية مسيرته كلاعب، لم يغادر نادي الجيش الملكي. لم يبحث عن تجربة في أندية أخرى، ولا عن مناصب في مكاتب أو استوديوهات تحليل. عاد إلى القلعة التي صنعته، ليعمل داخلها كمؤطر ومدرب في فترات مختلفة، في لحظات أزمات وأشواط انتقالية، فكان دائمًا رجل المهمات الصامتة. لم يطلب مقابلاً، ولم يشكُ التهميش، ظل يعتبر أن الوفاء للنادي لا يُقاس بالمنصب، بل بالجهد الذي يُبذل حين يحتاجك الفريق، حتى وإن لم يُصفق لك أحد.

ثم جاء المرض. خضع لعملية جراحية دقيقة داخل المستشفى العسكري بالرباط، واستمرت سبع ساعات كاملة، أُنهك بعدها جسده، لكنه لم يفقد كبرياءه. انتقل إلى فترة نقاهة طويلة داخل بيته، حيث ظل يتلقى زيارات من زملائه السابقين، من لاعبي الجيش والمنتخب، في مشهد أخلاقي نادر يُعيد بعضًا من الاعتبار لما تبقى من ثقافة الوفاء داخل الأوساط الرياضية. لكنه، رغم كل ذلك، لم يحظ بالالتفاتة التي يستحقها، لا من النادي، ولا من الجامعة، ولا من أي جهة رسمية يمكن أن تقول في لحظة رحيل كهذه: “شكرًا”.

وفاة محسن بوهلال اليوم لا تخص أسرته الصغيرة فقط، بل تعني كل من يرى في الرياضة ذاكرةً ومسؤولية. تعني كل من يعرف أن الأندية لا تُبنى بالألقاب فقط، بل بالرجال الذين يصنعون سمعتها ويحمون ألوانها. برحيله، لا نفقد لاعبًا فقط، بل نخسر فرصة أخرى لنستعيد سؤالًا مؤجلًا: لماذا يُترك الكبار يرحلون في صمت؟

ربما، لو كانت كرة القدم تُنصف فعلًا، لكان بوهلال نال من المجد ما يوازي أدبه.
لكنه، في النهاية، عاش بما يكفي من الشرف، ورحل بما يكفي من الهدوء، وترك من الصور ما يكفي ليظل حيًا فينا، حتى وهو في الغياب.

السمات ذات صلة

مواقيت الصلاة

الفجر الشروق الظهر
العصر المغرب العشاء

أحوال الطقس

رطوبة :-
ريح :-
-°
18°
20°
الأيام القادمة
الإثنين
الثلاثاء
الأربعاء
الخميس
الجمعة