الساسي: لماذا قبلنا “الاجتهاد” في الجنائية ورفضناه في الأسرة؟
يشهد المغرب مسارًا إصلاحيًا متواصلًا في مختلف المجالات القانونية والدستورية والإدارية، مسارٌ وإن شابته بعض النواقص، إلا أنه حقق مكتسبات نوعية للمرأة، ورفع الكثير من العراقيل أمامها، متوجهًا نحو تفعيل المساواة بين الجنسين في مجالات متعددة كالشغل، والوظيفة العمومية، والجنسية، والقضاء، والتمثيل السياسي. هذا الانفتاح تجلى في ولوج المرأة مجالات كانت حكرًا على الرجال، كالشرطة، والطيران، والجيش، والعدول، بالإضافة إلى تطور هائل في تعليم الإناث، ليبلغ تمثيلهن في كليات الطب نسبة تتجاوز 70%.
لكن، وسط هذا التقدم الملحوظ، يبرز سؤال جوهري: أين تقع مدونة الأسرة من هذا المسار الإصلاحي؟ وكيف يمكن تحقيق التقاء بينها وبين القوانين الأخرى، بما يضمن الانسجام والتكامل؟
وفي هذا السياق، طرح الأستاذ الجامعي محمد الساسي، خلال محكمة النساء الرمزية في دورتها الثانية والعشرين، تحت شعار:” باركا … لا تنازل عن قانون أسري يضمن المساواة والعدل والكرامة “، التي نظمها اتحاد العمل النسائي، (طرح) تساؤلاً هامًا: إذا كان مبرر عدم المساواة في الإرث يعود إلى أن الرجل ينفق على المرأة باعتبارها أمًا وبنتًا وزوجة وأختًا، وبالتالي يتحمل أعباء مالية لا تتحملها المرأة، فماذا عن المرأة العاملة اليوم التي تساهم في الإنفاق على الأسرة؟ ألا يستدعي ذلك إعادة النظر في هذه المسألة؟ وهل يطالب أحد بخفض أجر المرأة العاملة بحجة أنها غير ملزمة بالإنفاق على البيت؟
وانتقل الساسي إلى تحليل العلاقة بين الدستور والقانون الجنائي ومدونة الأسرة، في ضوء مسار تأهيل الحقل الديني في المغرب. فما الفائدة من الانتقال من الفصل الثامن القديم في الدستور، الذي يركز على المساواة السياسية، إلى الفصل التاسع عشر الجديد، الذي يتحدث عن المساواة في الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية؟ صحيح أن الدستور يقيد هذه الحقوق بثوابت الأمة، لكن هذه الثوابت محددة بوضوح في الفصل الأول من الدستور، وتشمل الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي. والاختيار الديمقراطي، كما يؤكد الساسي، لا ينفصل عن حقوق الإنسان المتعارف عليها عالميًا.
وفي المجال الجنائي، ذكر الساسي كيف تعامل واضعو أول قانون جنائي مغربي بعد الاستقلال (1962) مع إشكالية التعارض الظاهر مع بعض النصوص القرآنية القطعية. لقد انتهى بهم الأمر إلى عدم الأخذ بعقوبة الجلد وبتر الأطراف، والاستعاضة عنها بعقوبات أخرى، وعدم تجريم الردة وشرب الخمر المجرد، مع تجريم الرق وضرب المرأة. بل إن التشريع الجنائي تطور لاحقًا في اتجاه ضمان المزيد من المساواة بين المراه والرجل، واحترام كرامة النساء.
وهنا طرح الساسي سؤالًا محوريًا: لماذا تم قبول هذا المنهج في المجال الجنائي ورفضه في المجال الأسري؟ أليس من حقنا أن نطالب بتعميم هذا المنهج؟ ولماذا يصر البعض على التمسك بحرفية النص القرآني في مجال الأسرة، بينما يتجاهلون النصوص القطعية الأخرى في المجال الجنائي؟
إن النقاش حول مدونة الأسرة، كما يرى الساسي، يجب أن يبدأ بالإجابة على هذا السؤال. ففكرة “لا اجتهاد في مورد النص” هي نفسها اجتهاد قابل للتغيير. ويمكن الاستعانة بفقه المقاصد، وقاعدة دوران الحكم مع علته وجودًا وعدمًا، وفكرة الناسخ والمنسوخ، والسوابق في حياة الرسول والصحابة، لتحديث هذه المدونة بما يتماشى مع التطورات المستجدة في حياة البشر.
واختتم الساسي بالتأكيد على أن المغرب اختار بصورة رسمية “الإسلام السمح” في مواجهة “الإسلام المتشدد”، ودخل “إسلام الاجتهاد” في مواجهة “إسلام الجمود”. ولذلك، من المنطقي أن يظهر على مستوى قانون الأسرة نفس الالتزام بالتحديث الذي يطال القوانين الأخرى. فالقوة الروحية للدين تكمن في المجال الاعتقادي ومجال العبادات، أما مجال المعاملات فهو مفتوح بطبيعته على الاجتهاد المستمر لملائمته مع التطورات المستجدة في حياة البشر. ولا يمكن أن يظل هذا المجال مقيدًا بأوصاف أنتجها الفقهاء المسلمون قبل قرون.