قبل ثلاث سنوات، شكلت رسالة رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، إلى الملك محمد السادس نقطة تحول فارقة في العلاقات المغربية الإسبانية، حيث أعلنت مدريد دعمها الصريح لمبادرة الحكم الذاتي كحل “الأكثر جدية ومصداقية” للنزاع حول الصحراء المغربية.
هذا الموقف أنهى عقودًا من التذبذب الإسباني بين حسابات سياسية داخلية وضغوط خارجية، ليؤسس لمرحلة جديدة من التقارب الاستراتيجي بين البلدين، تجاوزت الأبعاد السياسية لتشمل التعاون الاقتصادي والأمني.
لكن بعد مرور هذه السنوات، ورغم “التعاون غير المسبوق” الذي وصف به الجانبان علاقاتهما، تظل تساؤلات عالقة: هل نجح المغرب في تثبيت هذا التحول في الموقف الإسباني، أم أن التحديات الدبلوماسية والاقتصادية لا تزال تعترض طريقه؟ وهل يمكن لهذا التقارب أن يظل ثابتًا أمام المتغيرات الإقليمية والدولية؟
تحولات جوهرية في الموقف الإسباني
غن قرار مدريد بدعم الحكم الذاتي لم يكن خطوة معزولة، بل جاء نتيجة تحولات جيوسياسية بدأت مع اعتراف الولايات المتحدة، خلال إدارة دونالد ترامب، بسيادة المغرب على صحرائه في 2020.
هذا الاعتراف دفع بالدول الأوروبية، ومن بينها إسبانيا، إلى مراجعة مواقفها التقليدية، خصوصًا في ظل التغيرات التي تشهدها المنطقة المغاربية، وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمغرب كشريك اقتصادي وأمني للاتحاد الأوروبي.
لكن هذا التحول لم يكن دون تكلفة داخلية على الحكومة الإسبانية، إذ واجه سانشيز انتقادات لاذعة من المعارضة وأطراف داخل حكومته، خصوصًا من حزب “بوديموس” اليساري، الذي رأى في الخطوة تراجعًا عن “الحياد التاريخي” لإسبانيا في القضية، ومع ذلك، فإن الالتزام الرسمي الذي أبدته مدريد بموقفها الجديد، عبر الاتفاقيات الثنائية التي أعقبت لقاء أبريل 2022 بين الملك محمد السادس وسانشيز، عزز من واقعية هذا التوجه.
إنجازات اقتصادية وتحديات دبلوماسية
غن التحسن في العلاقات انعكس بشكل واضح على الجانب الاقتصادي، حيث تعززت مكانة إسبانيا كشريك تجاري أول للمغرب، إذ بلغت المبادلات التجارية بين البلدين 22.7 مليار يورو في 2024، مع ارتفاع الصادرات الإسبانية بنسبة 5.9%، والواردات بنسبة 8.9%. هذا النمو يعكس الأهمية المتزايدة للسوق المغربية بالنسبة لإسبانيا، خصوصًا في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها أوروبا بعد جائحة كورونا والتوترات الجيوسياسية في شرق القارة.
لكن رغم هذا الزخم الاقتصادي، لا تزال هناك ملفات عالقة تعكس تعقيد العلاقة بين البلدين. فملف ترسيم الحدود البحرية في المحيط الأطلسي، الذي يثير قلقًا في جزر الكناري، لا يزال في طور النقاش، وسط مخاوف إسبانية من استغلال المغرب لموارده البحرية، خصوصًا في ظل مشاريع التنقيب عن النفط والغاز في مناطقه الاقتصادية.
كما أن مسألة إدارة المجال الجوي فوق الصحراء المغربية تظل محل تفاوض، حيث تسعى مدريد للحفاظ على نفوذها الجوي، بينما يسعى المغرب إلى بسط سيادته على هذه المنطقة الاستراتيجية.
التعاون الأمني وكأس العالم 2030.. رهان الشراكة الاستراتيجية
على الجانب الأمني، شكل التنسيق المغربي الإسباني نموذجًا ناجحًا في محاربة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. فمنذ توقيع خارطة الطريق الجديدة، عزز البلدان تعاونهما الأمني عبر عمليات مشتركة لمكافحة شبكات الاتجار بالبشر، وتبادل المعلومات حول الخلايا الإرهابية، وهو ما ساهم في تقليص تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى إسبانيا بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين.
ويُعد تنظيم كأس العالم 2030 بين المغرب وإسبانيا والبرتغال أحد أبرز تجليات هذا التقارب، حيث يعكس مدى التنسيق بين الدول الثلاث في إنجاح هذا المشروع الضخم، الذي يتطلب شراكة لوجستية وأمنية متقدمة، لكن رغم ذلك، تبقى هناك تساؤلات حول مدى استدامة هذا التعاون، خصوصًا في ظل التغيرات السياسية المحتملة داخل إسبانيا، حيث قد تؤدي انتخابات مستقبلية إلى مراجعة بعض الاتفاقيات وفقًا لتوجهات الحكومة الجديدة.
هل ضمن المغرب موقفًا إسبانيًا ثابتًا أم أن المتغيرات قد تعيده إلى المربع الأول؟
رغم أن المغرب حقق مكاسب دبلوماسية كبيرة من التحول الإسباني، فإن الضمانة الحقيقية لاستمرار هذا الدعم تكمن في مدى قدرة الرباط على الحفاظ على زخمها السياسي والاقتصادي في المنطقة. فالعلاقات الدولية ليست ثابتة، وأي تغير في التوازنات الإقليمية قد يدفع مدريد إلى إعادة النظر في بعض التزاماتها، خاصة إذا تعرضت لضغوط أوروبية أو داخلية.
لكن بالنظر إلى التحولات الاستراتيجية التي تشهدها المنطقة، يبدو أن المغرب أصبح فاعلًا أساسيًا في المعادلة، وهو ما يجعله في موقع قوة للحفاظ على مكتسباته. ومع استمرار توطيد العلاقات الاقتصادية والأمنية، وتحقيق شراكات دولية جديدة، فإن الرباط تمتلك كل المقومات لضمان أن الدعم الإسباني ليس مجرد موقف دبلوماسي عابر، بل تحول استراتيجي يصعب التراجع عنه.
السؤال الحقيقي الذي يظل مطروحًا هو: هل يمكن أن يستمر هذا التحول كجزء من رؤية بعيدة المدى، أم أن متغيرات السياسة الداخلية والخارجية قد تعيد مدريد إلى نهجها السابق؟