استفاق بهدوءٍ خادع، بعد ليلة متوترة، واستغرق في التفكير، قبل أن ينسحب من السّرير. استعاد شريط ما عاشه بالأمس وذلك الخلاف الحاد الذي نشب في العمل بينه وبين مسؤول كبير.
بعد االاستحمام، حضر قهوته ثم احتساها بسرعة قبل أن يغادر المنزل بحذر متفاديًا ازعاج زوجته المستغرقة في نومها. تعمد هذه المرة سلوك طريق مغاير ليتفادى مصادفة المدير العام. شيئًا فشيئًا شعر أن جسده يتصبب عرقًا بسبب حرارة الجو ذلك اليوم. قادته خطواته إلى الشاطئ الذي كان خاليا من المستجمين، عدا طفلين كانا يلعبان غير بعيد عن محفظتيهما المدرسية.
نزع حذاءيه وخلع جواربه ثم شمر أسفل سرواله، وتمشى طويلا على رمال الشاطئ المبللة بمياه البحر المنعشة، وأرسل بصره بخاطر مكسور نحو السماء الصافية حيث تحلّق طيور النورس التي يمتزج نعيقها بصفير البواخر المغادرة للميناء القريب من الشاطئ. استند إلى ظل حائط على بعد أمتار قليلة من المويجات التي كانت انكساراتها تتردد بشكل رتيب باعث على الاسترخاء. لم يشعر إلا وقد مر حين من الوقت لم يستطع تحديد مدته بدقة.
وبعد أن ألقى نظرة على ساعة معصمه وقف وقد غمره شعور بالراحة النفسية، كأنّه تخلّص من عبئ ثقيل كان يجثم على صدره. أصبح واضحا في ذهنه الآن القرار الذي لطالما قض مضجعه، فعقد العزم واتجه مباشرة إلى مقر الوزارة، وقدم استقالته، ثم انصرف.
مرت عليه الأسابيع الأولى وهو يتوقع–عبثًا–أن يُسأل عنه كما في السابق، ثم تعاقبت الأيام في صمت غريب، إذ لم يعد هاتفه يرن إلًا نادرا، وغالبا ما يكون المتصل أحد عارضي السلع أو الخدمات. غمرته سعادة عابرة في البداية بهذا الهدوء الذي بدأ يطغى على روتين حياته، ولكن سرعان ما تسلل الملل شيئا فشيئا ليحتل وجدانه باسطا جناحي الكآبة عليه، حينها تساءل: أين اختفى أولئك الذين كانوا يتعقبونه في كل مكان، ولا يكفون عن إزعاجه بمكالماتهم الهاتفية المتكررة أو برسائلهم الالكترونية؟
“أولئك الأشخاص كانوا يلجؤون إلى المسؤول الكبير الذي كنته” – قالت له زوجته – “أما الآن وقد أصبحت مجرد مواطن عادي فلا أحد سيلتفت إليك”.
اقتنع، مع مرور الوقت، بأن زوجته كانت محقة في قولها، وبأنه أصبح غير مرغوب ٍ فيه.
تساءل عن مدى صدق الروابط الإنسانية، ومدى قدرتها على الصمود أمام تقلّب الأيام. قال في نفسه: “هي أيضا تموت وتنتهي، وقد لا يبقى منها سوى سراب الذكريات أوبقايا الرسائل والصور المتروكة ليطويها النسيان”.
تذكر هذه الأخيرة وقرر أن يلقي نظرة على أرشيف شبابه، خطى بضع خطوات، نزل درجات السلم القليلة، التي أوصلته إلى غرفة المتلاشيات في قبو المنزل. مدً يده باحثا عن زر الإنارة وضغط عليه، لينتبه أن قدمه لم تطأ هذا المكان منذ مدة طويلٍة.
هل كأن مأخوذًا بمشاغل وهموم العمل إلى هذه الدرجة؟ أم كان خائفًا من مواجهة الماضي الذي يسكن صوره القديمة؟
سحب ألبوماتٍ صور من صندوق كان موضوعا على الرف، ونفض عنه الغبار، ثم جلس على آخر درجة في السلم، إنها صورّ بالعشرات بهتت ألوانها، وترجع إلى أيام الصبا والشباب.
استوقفته إحداها، كان يظهر فيها مع مجموعة من الأصدقاء يتوسطهم عبد الله. أنّبه ضميره وآلمته ذاكرته، بسبب هذا الصديق العزيز الذي انفصمت معه أواصر الصداقة دونما سبب معقول. عثر بين الأوراق المتراكمة في إحدى الملفات على آخر رسالة كان قد توصل بها من هذا الصديق.
حمل رسالة عبد الله معه وصعد إلى مكتبه، بينما شريط الذكريات يدور في مخيلته. ملأ كأسا من النبيذ، ليرتشف منه بضع رشفات من الحين إلى الاخر، وهو يقرأ: « إلى الذي كان صديقا عزيزا ثم صار جزءًا من الماضي الموْءود في الذاكرة. كنت أظن أن صداقتنا ستتحدى تقلبات الزمن حتى جاء اليوم الذي حصلت فيه على ما كنت تطمح إليه؛ المنصب الكبير والجاه والمال، فأحاط بك الانتهازيون واستفردوا بك، وأنت تعلم في قرارة نفسك أن اهتمامهم الزائد بك ليس إلا لقضاء مصالحهم ومآربهم، ثق أنهم سينفضون من حولك ويختفون مثل الصراصير. وإنك تعلم يقينا أيضا، أنه سيأتي اليوم الذي ستغادر فيه ذلك المكتب الباذخ، فدوام الحال من المحال كما يقال. كنت أصارحك وأنتقد فيك كل ما يبعدك عن المبادئ والقيم النبيلة التي ترعرعنا ونشأنا عليها، بينما أصحابك الجدد يدفعونك بتملّقهم إلى الاعتداد الوهمي بذاتك وبنجاحاتك، وفي قرارة نفسك تعلم علم اليقين أنّهم من سيتخلى عنك عندما ستحتاجهم في يومٍ من الأيام للوقوف بجانبك. أنت من الذين قيل عنهم إنهم يعرفون النهاية منذ البداية، ولكنهم يصرون على التعلّق بذكائهم الضار. إعلم أن حياتك أخذت الآن مسارا آخر، وأن فتور العلاقة بيننا كان بداية نهاية الصداقة المتينة التي ربطتنا، فلا حاجة إذًا لكي نكذب على أنفسنا، سأطوي بهذه الكلمات صفحة علاقتنا المديدة وسأشطب على ماكان قد تبقى من أمل عالق ببعض الذكريات التي جمعتنا.
وفي اليوم التالي أيقظه صداع شديد برأسه، كان قد بالغ في الشرب ليلة أمس. توجه نحو الحمام بخطوات بطيئة وهو يتحامل متثاقلا على نفسه. وقف تحت رشاش الدوش ليغمر جسده بالمياه المنعشة لعل صحوه يكتمل، شعر حينها ببعض النشاط يسري في جسده، وبدأت ألام رأسه تخف.
بعد تناول الفطور، قرر العودة إلى غرفة المتالشيات. نفض الغبار عن كل الرسائل والصور التي توثق لبعض ذكرياته، ثم حملها معه الى مكتبه في الطابق الأول من المنزل، ثم قضى بين طياتها النهار كلّه، و في المساء قصد مقهاه المعتادة التي انقطع عن ارتيادها منذ أن استقال من منصبه.
شاهد على بعض كراسيها بعض المنافقين الذين كانوا يتملّقون له في السابق، لكنه، ورغم أنهم استقبلوه ببرود ٍشديد، اتخذ له مكانًا بينهم. بعد لحظات من الدردشة، رن هاتفه، على غير العادة، أجاب بصوت مغمور بالدهشة وبالفرحة في الآن نفسه:
– أهلا أهلا سيدي الرئيس، مرحبًا، هذا شرف عظيم أن تتصلوا بي مباشرة –
– أنا سعيد بسماع صوتك، يا رجل، أين غبت كل هذه المدة؟
– إنها مشاغل الحياة، سيدي، وأنا سعيد كذلك.
– كيف هي أحوالك وأحوال العائلة؟
– بخير سيدي كلهم يدعون لك بالصحة والتوفيق.
– اتصلت بك لكي أقترح عليك منصب وزير الشؤون الإدارية في التشكيلة الوزارية المقبلة، ما رأيك؟
– وهل هذا يحتاج إلى رأي سيدي؟ أنا موافق من الآن وبدون أي تحفظ! )أجابه و هو يكاد يطير من شدة الفرح(.
– على كل حال كان من اللازم أن أستشيرك قبل اتخاذ القرار!
– كيف لي أن أرفض منصب وزيرالشؤون الإدارية، سيدي، وهو منصب رفيع لم أكن لأحلم به!
– إذًا تهيأ له، مع السلامة.
– جزاكم الله خيراً، سيدي، مع السلامة.
بمجرد أن اقفل الخط، بعد مكالمته مع الرئيس، انهالت عليه التهاني والتبريكات من المنافقين المحيطين به، بل منهم من نهض من كرسيه ليعانقه بحرارة. وجه إليه العديد منهم، وبإلحاح شديد، دعوات للعشاء في مطعم ٍ فاخر. «سبحان مبدل الأحوال!»، قال في سره، ورفض دعوتهم جميعًا، زاعمًا أن لديه ضيوفًا في المنزل ينتظرونه للعشاء.
عندما وصل إلى منزله بدأ الهاتف يرن بلا انقطاع لا شك في أن الخبر قد انتشر – خمن في ذهنه-، ولكنه ظل مصرا على عدم الرد على الاتصالات، مما أثار فضول زوجته:
– ماذا جرى؟ لماذا كل هذه الاتصالات الهاتفية؟
– يبدوا أن هناك أناس اشتاقوا إلي جديد. )قالها بتهكّم من دون أن يقص على زوجته حقيقة الأمر(.
– يا للعجب! يتذكّرونك بعد كل مرور كل هذا الوقت ٍ على استقالتك!
– يبدو ذلك…
استأذن منها، قبل أن ينصرف إلى غرفة النوم، وعرج على الحمام ليستحم فإذا بالماء ينهمرعليه باردًا برودة شديدةا. ارتعش عندئذٍ ثم انتفض انتفاضة مصحوبة بصرخة أفزعت زوجته وأيقظتها من النوم:
– أوووه، أنت هنا؟ٍ – قالها باستغراب، وهو ينظر حواليه كأنه يتفقد مكانًا لا يعرفه.
– وأين تريدني أن أكون؟ إن الشمس لم تشرق بعد، ثم ما الذي جعلك تنتفض وتصرخ بهذا الشكل؟
– لا شيء، لا شيء، كنت أحلم فقط. رد عليها بصوت ٍ متأسفٍ، وبنبرة تنم عن كونه أُصيب بخيبة أمل ٍكبيرة.
.