يعود الصحافي مصطفى الفن لنشر مقال قديم له عن جماعة العدل والإحسان، لازالت لتحليه راهنيته وجدواه، حيث يطرح ما يعتبره أخطاء ارتكبتها جماعة العدل والاحسان والدولة على حد سواء، نعيد نشره بعد ان عادت الجماعة الى الواجهة بنشرها وثيقة، تقول إن قصدها التفاعل مع الواقع بتحدياته وفرصه لبناء المستقبل، وترى أن ما تضمنته من مقترحات وإجراءات عملية وواقعية جاء في سياق تجنيب البلاد من الأخطار المحدقة، وأنها جاءت خيارا وسطا بين الخطاب الاستراتيجي العام وبين العرض التفصيلي التنفيذي.
نص مقال مصطفى الفن
قبل قرابة عقدين من الزمن، سألت أستاذ العلوم السياسية الدكتور عبد اللطيف أكنوش عن المستقبل السياسي لجماعة العدل والإحسان إذا ما توفي مرشدها الشيخ عبد السلام ياسين؟
وكان جواب الدكتور أكنوش أن الشيخ ياسين عائق حقيقي أمام أي انطلاقة سياسية للعدل والإحسان..
ثم تابع قائلا إن الجماعة ستتحرر أكثر، بموت مرشدها، من هيمنة ما هو روحي وما هو تربوي لصالح ما هو سياسي صرف..
لكن هل قد مرت سنتان، الآن، على وفاة الشيخ ياسين رحمه الله دون أن تقع هذه الانطلاقة السياسية الصرفة للعدل والإحسان..
وربما لم يتغير أي شيء في سلوكها السياسي والدعوي خلافا لما توقعه الأستاذ عبد اللطيف أكنوش..
بل بدا واضحا أن الشيخ ياسين حكم الجماعة حيا، وربما سيظل يحكمها ميتا من خلال كتاباته وكتابه “المنهاج النبوي” تحديدا..
لأن “المنهاج” هو مجرد كتاب فقط..
إنه أيضا، في نظر أبناء هذا التنظيم، بمثابة “قرآن ثان” رغم أن سياق الأمس، الذي كان وراء ميلاد “المنهاج” هو غير سياق اليوم.
والمؤشر على هذا المنحى هو أن قيادة الجماعة لا تضع اليوم على رأس أولوياتها قضية حل مشكلتها مع الدولة..
بل إنها تعتبر أولى أولوياتها هي التعريف بكتابات مرشدها الشيخ ياسين ومشروعه الفكري “الذي لم يطلع عليه الناس”..
والسبب، في نظر الجماعة، هو سياسة المنع والحصار التي نهجها “المخزن” ضدها.
والواقع أن ثمة مشكلة حقيقية في العلاقة بين العدل والإحسان وبين الدولة، وربما لا أمل في الأفق لتسوية هذه المشكلة..
نعم إن الأمر كذلك اللهم إلا إذا حدثت تحولات كبيرة في الأجيال التي تلقنت مفاهيم “السياسة والدعوة” في محاضن هذه الجماعة وهيئاتها.
وهنا نذكر بتصريح مثير للراحل محمد البشيري، الذي كان الرجل الثاني في هذه الجماعة قبل أن يغادرها بعد خلاف مع مرشدها تحديدا.
البشيري رحمه الله قال في هذا التصريح إنه رغم السنوات الطويلة التي عاشها في الجماعة فإنه لم يفهم ما الذي يريده الشيخ عبد السلام ياسين؟.
وفعلا، ما الذي يريده الشيخ عبد السلام ياسين من خلال كتاباته الغزيرة والملغزة وأيضا من خلال منهاجه النبوي ورسائله “النارية” سواء إلى الراحل الحسن الثاني أو إلى الملك الحالي محمد السادس؟
لا جواب.
ويبدو أن الجماعة نفسها لا تملك ربما جوابا عن هذا السؤال الذي تركته ربما إلى عامل الزمن لعل الزمن يتكفل بالجواب نيابة عنها.
ومع ذلك، لا بد من تثمين المسعى السلمي لجماعة العدل والإحسان لكونها واحدة من الجماعات الإسلامية الأولى في المغرب، التي رفعت لاءاتها الثلاث:
لا للعنف..
لا للعمل السري..
لا للارتباطات مع الخارج..
كما أن الجماعة رفعت هذه اللاءات الثلاث في سياق سياسي صعب تعرضت فيه هذه الاخيرة إلى “القمع” وإلى هجمة غير أخلاقية من طرف قادة تنظيمات سلفية ووهابية يقيمون في المغرب وقلوبهم مع السعودية..
حصل هذا تحت أعين السلطة وربما بتشجيعها أيضا..
أكثر من هذا، لم يحدث أن تورطت الجماعة منذ تأسيسيها في أحداث أعمال إرهابية..
ولم يحدث أيضا أنها حرضت أعضاءها على الذهاب إلى بؤر التوتر والقتال في صفوف التنظيمات الجهادية..
كما لم يسبق لها أن استعانت بأي جهة أجنبية في حربها المفتوحة مع الدولة.
لكن ما يعاب على الجماعة هو ربما هذا الغموض الكبير الذي يحكم موقفها السياسي.
شخصيا لم أفهم كيف تسترجع الجماعة، تارة، الأدبيات النظرية للشيخ عبد السلام ياسين، التي تصنف الأنظمة السياسية العربية في خانة الأنظمة الجبرية، ثم تدعو إلى ما تسميه “القومة” ضد هذه الأنظمة وإقامة “الخلافة على منهاج النبوة” على أنقاضها..
فيما تلجأ الجماعة تارة أخرى إلى تكتيكات الحركات السياسية لتدعو “مرحليا” إلى حوار وطني على أرضية ميثاق جامع بأجندة غير محددة ودون أي جواب على هذا السؤال:
هل سيكون أفق هذا الميثاق هو فرض إصلاحات جدرية أم أن الأفق هو تحقيق الرهان المحوري في المنهاج النبوي والمقصود هنا الإطاحة السلمية ب”النظام الجبري” ليحل محله نظام الخلافة؟
أيضا لا جواب..
قضية أخرى تستعصي على الفهم في السلوك السياسي للعدل والإحسان.
الجماعة تمد يدها إلى المخالفين لها من “الفضلاء الديمقراطيين”، واستطاعت، نهاية الأسبوع المنصرم بمناسبة الذكرى الثانية لوفاة مرشدها، أن تجمع ضيوفا وشخصيات وازنة من مختلف المرجعيات والمدارس السياسية والفكرية من داخل المغرب وخارجه..
لكن أمينها العام استبق، هذه الذكرى، وخرح بحوار مع صحيفة يومية هاجم فيه مرجعيات ضيوفه اليمينية والاشتراكية والليبرالية ووصفها بـ”الفاشلة”.
وهذا الهجوم غير المبرر على أصحاب هذه المرجعيات المخالفة قد يزرع الشك والغموض حول موقف الجماعة الحقيقي من الآخر الذي لا يقاسمها المرجعية أو الديانة أو العقيدة من المغاربة..
وهكذا يصبح الحديث ربما عن حوار وطني وميثاق جامع مجرد خطاب يرمي بالدرجة الأولى إلى تحصين “شعبية” حتما ستتعرض إلى التآكل مع مرور الوقت..
يحصل كل هذا أمام هذا “الوهج السياسي والإعلامي” الذي خطفه حزب العدالة والتنمية من خيار المشاركة السياسية والعمل من داخل مؤسسات الدولة لا من خارجها.
نعم اليوم مرت سنتان على وفاة الشيخ عبد السلام ياسين، لكن الجماعة لم تنتج ربما طيلة هذه المدة أي مبادرة تذكر..
بل إنها ظلت تعيد إنتاج مواقفها السابقة المعروفة إلى درجة لم يعد يفهم لا المراقب ولا المنتمون للجماعة الأهداف القابلة للتطبيق أو تلك غير القابلة للتطبيق كأفق لعملها السياسي.
أكثر من ذلك، فحين تتزاحم هذه الأسئلة المربكة والكبرى على قيادة الجماعة، فإن هذه الأخيرة “تختبئ” خلف خطابها التربوي ومهمتها الدعوية لئلا تجيب عن سؤال المستقبل السياسي.
وفعلا فقد كانت للجماعة، خلال احتجاجات الربيع العربي، فرصة تاريخية لاختبار خطها السياسي ومدى واقعيته..
وكادت الجماعة أن تضع بيضها كله في سلة هذا “الحراك الشعبي”..
لكن عندما أحصت خسائرها، تأكد لها أن الاستمرار في الرهان على الشارع سينهكها وربما سيعرض مكتسباتها الدعوية وتماسكها الداخلي إلى الانهيار.
ولأن الاحتجاج منهك، فقد قررت الجماعة الانسحاب دون أن تقدم لأبنائها أو الرأي العام تفسيرا مقنعا عن حول تقديراتها السياسية..
فيما اختار زعيم العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران، بدهائه السياسي، أن يفاوض الدولة بهذا “الحراك الشعبي” حتى دون أن يشارك في احتجاجاته..
وكان المقابل هو “فرض” أجندة من الإصلاحات الدستورية والسياسية قادته إلى الحكومة وليس إلى مواقع القرار.
أمام هذا كله، لا بد من الاعتراف بأن الدولة تعاملت مع العدل والإحسان في الكثير من المحطات بمقاربة أمنية صرفة ربما لم يكن هناك أي داع إليها.
وهي المقاربة التي دفعت العديد من القياديين “المعتدلين” و”العقلاء” في هذه الجماعة إلى مزيد من التطرف والتشدد في المواقف السياسية..
فيما كان المطلوب أن تلجأ الدولة إلى سياسة الحوار التي قد تدفع “عقلاء” هذا التنظيم إلى مزيد من الاعتدال وإلى تليين مواقفهم من الشرعية الدينية والسياسية لنظام الحكم في المغرب.
وبالفعل، فالجماعة لا تخلو من حكماء وعقلاء..
وينبغي مساعدة هؤلاء الحكماء والعقلاء داخل الجماعة وتقوية مواقفهم لدفعهم إلى مزيد التعقل والحكمة بدل “استفزازهم” ودفعهم إلى التصرفات غير العقلانية.