رسالة إلى والدي.. مرّت جمعة على رحيلك وفقدنا طعم الابتسامة
كانت أيام قاسية تزحف فيها الثواني ببطء ممل، ولم نفقد شهية الأمل والدي، لأنك قاومت كثيرا.. جلسنا خمسة أيام أمام غرفة الإنعاش. نقضي 13 ساعة يوميا بين الجلوس والوقوف الى أن يطردنا الحارس وهو يعلن إنها الساعة التاسعة ليلا وعليه إغلاق الباب.. كان كل واحد منا يغادر المشفى وقد ترك شيئا بقربك، دعاءه، دموعه، قلبه…
حينما وصل باقي إخواني الذين يقطنون خارج المغرب أربعة أيام قبل وفاتك، كان الأنبوب الاصطناعي يخترق رئتيك. لم تفقد ذاكرتك المتوهجة، كنت تنظر إلينا بعين المشفق، هي ذات العين التي ما جفت مياه الحب منها، كأنك توصينا خيرا ببعضنا، وتطمئننا أنك لن ترحل، لأن من يحب يظل مقيما فينا إلى الأبد.. تارة نفهم من نظرات عينيك وإيماءاتك أنك تعرفت علينا وقد حركت شفتيك بأسماء والدتي وأبنائك السبعة وتارات أخرى تغلق عينيك فيتعاظم القلق.
ابنك البكر رشيد قرة عينك، ومفخرتك عزيز الدكتور الذي يدرس في أعرق الجامعات الفرنسية، وعبد الغني ألمع أبنائك وحميد ابنك المدلل الذي تناوب ورشيد على خدمتك ليل نهار منذ أن خذلتك صحتك، وأمين صغيرك المحبب إلى قلبك، وسناء آخر العنقود والحب الكبير..
قال أخي الأكبر وهو يتابع نبضات قلبك بتضرع: “إلاهي رجاء امنحه شهرا نودعه فيه”، وقالت أختي الوحيدة: “إلاهي امنحه عاما إضافيا”، وطلبت من الله في سري بما يشبه تعاقد فاوست: “ربي، إن كان لي أمد في العمر امنح أبي زمنا مما تبقى لي من نسمة الحياة.. لكن هيهات، نشاء ويشاء.

لا شيء يضاهي رائحة عرقك، أشبه برائحة المواليد الجدد الممهورة بعطر نادر.. تجاوزت الواحد والتسعون سنة ولازال لك نفس العطر، الذي عجزت حتى حصص « الدياليز » التي كنت تخضع لها أيام الاثنين والخميس عن محوه. وكأنك تصر على أن تبقى طفلا.. تلك البراءة الأولى التي فتحنا عليها أعيننا، ذلك النبل المشع من كل طرف فيك، من أين لك كل ذلك الحب الذي كان يعينك على كثرة عددنا، وقد حفرت أنفاسك فينا بهجة الحياة، يقين المؤمنين، إخلاص العشاق، واطمئنان الذاهبين إلى قدرهم بلا تردد أو خوف..
كل فتاة بأبيها معجبة وأنا كنت أشم رائحتك فأمتلأ بطاقة سحرية غريبة، ولم أعثر قط على عطر بهذا الحنان والرحمة والمودة والصفاء.. كل شيء فيك كان حلوا، لذيذا، رائعا، حتى حزنك الذي كنت تخفيه عنا كان له طعم الحب..

منذ صغر سني أفهمتني عمتي أن الأنثى أقل شأنا من الذكر، وكنت مرتبكة بين ما حاولت عمتي إفهامي إياه، وبين ما ألاحظه في بيتنا والعناية التي خصتني بها أسرتي عند ولادتي بعد خمسة أولاد، وعند كل مرة حرصت على تصحيح ما قلته لي عمتي قولا وفعلا، وبعد تسع سنوات من ولادتي عشت مع أختي سناء الدليل على الحب والاحترام والتقدير الذي تكنه لابنتيك كما لأبنائك الخمسة..
أتتذكر أبي وأنت في عز غيابك، ضحكتي الخاصة التي رافقتني منذ صغري، تلك الضحكة الرقيقة الصارخة التي تخرج من أعماق أعماقي، كنت مولعا بها. كل صباح كنت تدغدغني، وتنتظر شيئا واحد: أن أبتسم ثم أضحك ملء فمي.. حينما كبرت حاولت أن أغير ضحكتي، لاسيما وقد فطنت أنها أشبه ما تكون بدعابة أو تمرين طفوليين اتخذا يوما بعد آخر شكل الصخب. وأخيرا فشلت في تغييرها لأنها رسخت في حنجرتي وباتت جزءا مني.. أتعلم، إني توقفت عن التحكم في قهقهاتي، وأطلقت الحرية لحنجرتي لتصدع بتلك الضحكة، لشيء واحد هو أن كل ضحكة كانت من أجلك، كل قهقهة صارخة هي أشبه بهدية لك لتبقى قويا وتصمد أكثر..
أنا مدينة لك والدي بهذه الضحكة وبهذه الجرعة اليومية بكل ما تحملها من أمل وحب في الحياة وصلابة تمتص كل لحظة ضعفي الداخلي… مع مرور الوقت وتوالي العقود والنكسات شحبت ضحكتي، واختفت قهقهتي تماما، وبعد رحيلك فقدت الابتسامة بريقها، ها أنا الآن أداري حزني وحيدة بدونك، لمن سأضحك بعد الآن؟ عذرا كل أحبتي، تستحقون الأجمل مني وفي، لكن بعد رحيل أبي، أخشى أن يشحب الوجود، وينضب كل شيء..
كم كنت تود أن تبرز لنا أنك صارم بل وقاسي أحيانا. بمجرد ما تفتح باب بيتنا ويسمع صدى نحنحتك «أح»، حتى يعدل إخواني جلستهم ويستبدل أصغر اخواني « الشورت » بالسروال في عز الصيف.. لكن سرعان ما تفيض لتغمرنا بكل الحب والطمأنينة.
منذ نعومة أظافري فهمت خطأ تلك النحنحة، كانت بالنسبة لي عنوانا لقلق وخوف إخواني، قبل أن أفهم أنها شلال من الحب.. فهمت متأخرا أنك كنت تحرص على أن تردد في جوفك صوتا كالكحة، استعدادا لاستقبالك الذي يحمل معه عادة الفواكه الجافة والحلوى والعديد من الأشياء المغلية على نار هادئة بكثير من الحنان والمودة.. ومعك حضنك الذي كان مقبرة لأحزاننا وينبوعا فائضا يمنحنا دفئا من برد وقر الوجود.
وحل وقت الضيق مع « كوفيد 19 » واستقبلته ساخرا متهكما.
ظهرت علامات الفيروس على أخي من مواليد 67 ومعها صعوبات التشافي، وهو الذي كان يزورك يوميا ويحممك بيديه. حتى حينما ظهرت نتائج تحليلك الايجابية، قلت انها مجرد مؤامرة وتناولت فطورك في أمان وإطمئنان. . كنت تود دوما الموت بشجاعة الفرسان النبلاء.
كانت طبيبة الرئة التي تزورك في البيت مندهشة أمامك وهي تذكرك بأنك تعاني من أمراض متشعبة ومعقدة يسهل على الفيروس أن يهزمك من خلالها، فإذا بك تواجه كل مخاوفها بابتسامتك المعتادة وجملتك الشهيرة: “الله يدخلنا للجنة بالرحمة ديالو “.. امنحني بعضا من كل هذا الصمود لأعيش به بعد غيابك لمن لا زال بحاجة إلي أبي.
سخرت من الفيروس، وكم كنت تشفق علينا ونحن نضع الكمامة وعليّ أكثر وأنا أعض عليها بالنواجد. اليوم بعد رحيلك، أتحسر على سنوات الوباء التي حرمتني منك وأنا أتذكر كيف كنت أجلس بعيدة عنك خوفا من أحمل لك الفيروس..
كم آسف على كل المرات التي زرتك فيها ولم أقبلك ولم أضمك الى صدري.. ليتني أزلت كمامتي كل تلك الشهور وقبلتك ما يكفي، لعلي أشبع وأشفي غليل هذا الجوع والعطش إليك.. ها أنا وحيدة على درب العمر بعد اليتم منك.
حتى حينما بدأت حصص الدياليز بعد أن تجاوز عمرك التسعين سنة، أصبح لك صديق طفل يجاورك وهو يخضع بدوره لحصص الدياليز وهو يلهب ويلهو ثم صديق آخر لا يربو عمره عن الثلاثين سنة.. ثم سرعان ما تحولت حصص الدياليز كل اثنين وخميس الى عملية انهاك مرفوقة بوجبة دسمة تمنعها عليك والدتي بسبب الريجيم اللعين الذي كرهته دائما… وعند كل مرة كنت تعود منهكا لكن مبتسما كالعادة..
كانت تكفيك نظرة لتقول كل شيء، رضى مطلق أحيانا أو عتاب وسؤال مؤرق أحايين أخرى عن صحتنا وعن مهننا وعن أحفادك وأبناء أحفادك، عن القضية الفلسطينية وأنت تتابع نشرة الأخبار وعن قلقك المزمن نحو ما يجري في العالم… نعم أتذكر فلسفتك لن تغيروا العالم.. غيروا أنفسكم أولا.. يا الله، كم كنت حكيما، وظللت توجهنا نحو ما يشد عضدنا، ويهدئ فورة أعصابنا أمام كل هذا القلق الوجودي الذي وجدتنا نغرق في لججه..
أمطرت بعد دفنك، فهل اتسع قبرك وقد حلقت فراشة على شاهد قبرك يوم زرناك؟ هل وصلك دعاء عمي مبارك والحسين وكل أسرتنا الأمازيغية وهم يعددون مناقبك؟ ويدرفون الدمع المتصلب في مآقي الرجال خوفا من أن نرى ضعفهم وهشاشتهم وحبهم العميق لك..
هل وصلك دعاء الجيران وإمام مسجد حيينا الذي حرص على تغسيلك بيديه مع إخواني، وقد جاء مسرعا، بعد أن علم أنك فارقت الحياة عند صلاة الجمعة؟ هل وصلتك دعوات البعيد والقريب وقد جاؤوا بالعشرات وحكوا لنا روايات جعلتنا نفخر بك أكثر.. عذرا عن كل قبلة لم نخطفها منك، لكل حضن افتقدناه بسبب الخوف عليك..
ظهرت في منام جارتنا التي طرقت باب بيتنا لتحكي لنا عن الحلم، واقفا من دون كرسي متحرك، فاستغربت متسائلة، كيف تحسنت فجأة وماذا تفعل؟ فقلت لها: » أطعم الجوعى حليبا وأوزع الماء على الأطفال العطشى.. » لم أصدق يوما قصص الأحلام لكنني أفتقدك وأنت توزع علينا الابتسامات وأنت تغني أغاني الحب وتردد مازحا « بوكيتو بوكيتو » وكل القفشات التي كانت تعيدك من الشيخوخة إلى الطفولة..
ألازلت تردد الأهازيغ الأمازيغية التي تعلمتها في البادية بعد أن تنهي صلاتك؟ هل التقيت والديك اللذين تحدثت عنهما ملايين المرات بكثير من الحسرة والألم، وأنت تحكي عن اليتم المبكر الذي عشته في قلب « حاحا » المنسية؟ وكيف تدبر انشغالك المؤرق بقضية الوحدة الترابية وقلقك المزمن بسبب القدس؟
فقد الطاجين بالخضروات ألوانه ومذاقه، وباتت اللمة العائلية من دون ملح. توقفت بعد أسبوع على وفاتك عند نفس المحل واشتريت الحلوى ذاتها التي تطلبها ضدا على « الريجيم » وعادة ما نتناولها جماعة بكثير من النهم.. أكلتها، فإذا بها من دون طعم ! فكيف ستكون جولة غابة بوسكورة من دونك وهل سيبقى لشاطئ دار بوعزة نفس الرائحة ولمنظر الغروب نفس السحر؟
الآن أفهم لماذا لم تشفى من قصة يتمك التي حكيت عنها عشرات المرات، وأستوعب كم هو قاس ذلك الإحساس الذي يظل ينخر فيك من الداخل ويغرقك في الخواء ويجعل كل شيء باهتا.
ياقوت حفيدتك من ابنتك سناء تشعر بالوجع. من سيدللها أكثر بعد رحيلك؟ من ستزور كل أسبوع؟ ومن سيهديها هداياك القيمة وابتسامتك الرائعة أجمل الهدايا. أما ابنة حفيدك آدم وهي بالمناسبة تحمل نفس الإسم ياقوت ولا يربو عمرها عن الاربع سنوات، فتركض بين عكازك وكرسيك المتحرك.. وحدهم أبناء أحفادك من صغار السن يدخلون غرفتك فيواصلون اللعب واللهو وتستمر الحياة عندهم بالألوان.
اليتيمة الكبرى هي والدتي التي لم تعرف رجلا سواك منذ أن بلغت من العمر 13 سنة. اليتيمة التي كنت بالنسبة لها زوجها وأبوها وأخوها قبل أن تصبح ممرضتك وبلسمك.. نعم اليتيمة الكبرى هي الطفلة التي تزوجتها وكنت تسمح لها باللعب في الزقاق ريثما تعود من عملك.. لقد أصبحت حياتها وحياتنا بئيسة لا لون ولا طعم ولا رائحة لها..
لقد عانقت خالتي وعانقت بنات عمي رحمه الله وشممت رائحتك في عمي مبارك وأفتقدك.. صدق من قال « ستبقى يتيما في غياب من تحب.. حتى لو عانقك العالم بأسره ».
عشت تجارب قاسية وأحزانا وأوجاعا مكلفة، ولم أكن أعتقد أن موتك سيملأني بكل أسباب القهر..
يقول أصدقائي أنت قوية، ستتجاوزين المحنة، لست كذلك، كنت دائما هشة وبغيابك أشعر بالهشاشة أكثر..فطوبى لك لأنك لن تستحق إلا النعيم أبتي.