قال الباحث في التاريخ والآثار والتراث، يوسف المساتي، إن الرحلة إلى الحج لم تكن مجرد ممارسة دينية في تاريخ المغرب، بل شكلت عبر قرون مصدرًا مركزيًا للمشروعية، سواء لدى التيارات الدينية أو الحركات السياسية، مشددًا على أن الذهاب إلى الديار المقدسة كان يُنظر إليه كوسيلة لاكتساب العلم والبركة، وحتى للارتقاء الرمزي والاجتماعي، خاصة إذا لم تكن هذه الجهات قادمة من المشرق.
المساتي أوضح في حلقة جديدة ضمن سلسلة “ما لم يُرْوَ” أن الحملات الصليبية، وما تبعها من أحداث، أثّرت بشدة على قدرة المغاربة على الحج، بل جعلت منهم هدفًا مباشراً، نظرًا لمواقفهم النضالية تجاه الصليبيين، وهو ما أدى إلى منعهم أحيانًا من إتمام رحلتهم. وأشار إلى أن عددًا من المؤرخين والرحالة تحدثوا عن تمييزٍ واضح ضد الحجاج المغاربة خلال تلك الفترات، ما جعل الطريق إلى مكة محفوفًا بالمخاطر.
وأشار إلى أن الفقهاء المغاربة، وفي سياق حملات الفرنجة على المشرق من جهة، وحاجات الأندلس إلى الرجال من جهة أخرى، أصدروا فتاوى تمنع الحج، بل وتعتبره “منكرًا” أو “إلقاءً بالنفس إلى التهلكة”، كما جاء في فتوى ابن رشد. فالدولة المرابطية، ثم الموحدية، رأت في منع الحج ضرورة لتقوية الجبهة الداخلية، وتوفير الدعم للمعارك المصيرية، خصوصًا في الأندلس.
ورغم هذا المنع، برز المتصوفة برؤية مغايرة، إذ اعتبروا الحج ميدانًا للكرامة والصلاح، وظهرت حكايات عن أولياء سافروا إلى الحج ليلًا وعادوا صباحًا، أو بلغوه عبر “طريق خارق”، ما عزز من الطابع الأسطوري للحج الصوفي، ورسّخ مكانة الحجاج داخل المخيال الجمعي كرموز للتقوى والنضال والتضحية.
وأوضح المساتي أن هذه الرمزية دفعت بعض المناطق المغربية إلى تأسيس ما يشبه “أماكن بديلة” عن مكة، حيث كان الناس يتبركون بها ويزورونها، كما تأسست قوافل رسمية للحج عُرفت بالركب، أبرزها “الركب الفاسي”، إلى جانب “الركب المراكشي” و”ركب توات”، مشيرًا إلى أن بعض هذه الركوب كانت تُقودها نساء من الأسرة المرينية، وترافقها حراسات علمية وقضائية وتُنظّم بشكل محكم.
وتحدث المساتي عن ظهور “الحج بالقلم”، وهو نوع رمزي من الحج تمثل في كتابة رسالة اعتذار إلى النبي محمد ﷺ تُعلق على الكعبة، حين يتعذر على صاحبها أداء الحج فعليًا، وكان هذا النوع من الحج قد حظي بتأييد لاحق من الفقهاء رغم التحفظات الأولى. كما أشار إلى استمرار إرسال الهدايا السلطانية إلى مكة، كالمصاحف المذهبة، وبعضها كان موكولًا بشخصيات معروفة كالسلطان مولاي إسماعيل أو خناثة بنت بكار.
ومع التحول إلى الحج البحري، انخفضت أهمية القوافل البرية، وهو ما مثّل نقلة جديدة في تاريخ الحج المغربي. غير أن المساتي يشدد على أن علاقة المغرب بالحج ظلت متأرجحة بين المنع والتشجيع، وبين الفقيه والمتصوف، وبين السلطة والمعارضة، لأن الحج لم يكن مجرد فريضة بل أداة فاعلة في بناء المشروعية الدينية والسياسية والثقافية.
ويرى المساتي أن تاريخ الحج في المغرب يكشف صراعًا خفيًا ومعلنًا حول من يحتكر الرمزية الدينية، وهل هي للفقيه المرتبط بالسلطة، أم للمتصوف الحر، أم للفاعل السياسي الباحث عن الشرعية. فالحج، في نهاية المطاف، لم يكن غاية فقط، بل وسيلة محورية ضمن هندسة السلطة والرمزية في التاريخ المغربي.