في زمن تُختصر فيه المعرفة في رمشة شاشة، وتتقلص فيه الكلمة إلى “تمرير اصبع”، يواجه الكتاب الورقي امتحانًا مصيريًا، ليس لأنه لم يعد صالحًا، بل لأن الزمن تغيّر، وتبدلت العادات، وصار الحبر نفسه مطالبًا بأن يتكيّف مع شروط الضوء الاصطناعي، ومع ذلك، وفي زحمة هذا الانحدار المعلن، ما زال هناك من يصرّ على أن القراءة لا تليق إلا بورق يتنفس، وبصفحة تُقلب، وبهواء معطر برائحة الحبر.
وسط هذه التحولات، التي باتت رقمية أكثر من أن تكون ثقافية، يتحدث الدكتور باسم الزعبي، مدير دار ناشرون موزعون الأردنية، بكثير من الواقعية والمرارة. لا يخفي أن الإقبال على الكتاب الورقي تراجع، وأننا نعيش ظاهرة “الأمية الجديدة”، ليس لأن الأفراد لا يعرفون الحروف، بل لأنهم فقدوا القدرة على الإنصات للنص، والتريّث في ظله. ما يبدو ثقافة مشتتة على وسائط التواصل، يخفي في جوهره خواءً معرفيًا يتّسع كل يوم.
الزعبي، وهو المترجم والباحث الذي يعايش النص في لحظاته الأولى، لا يتوقف فقط عند ملاحظة الأزمة، بل يشير إلى عمق التحوّل: عزوف الشباب، تراجع القراءة العميقة، صعود الوسائط البصرية على حساب الحرف، وضغط القدرة الشرائية الذي يجعل من الكتاب، في أعين البعض، سلعة غير ضرورية. وعلى الرغم من ذلك، تظلّ بعض الفئات “الباحثون”، الجيل المتقدم، القرّاء “المزمنون” أوفياء للكتاب الورقي، كمن يرفض طواعيةً مغادرة زمن المعنى.
لكن المغرب، في وسط هذا التيه العربي العام، يقدّم استثناءً لافتًا، فبحسب خالد سليمان ناصري، مدير منشورات المتوسط، يظل القارئ المغربي نموذجًا فريدًا. جمهور لا يُشبه سواه، من حيث تنوعه، حضوره، وتفاعله.
ففي قلب معرض المغرب الدولي للكتاب، الذي وصفه ناصري بأفضل معارض الوطن العربي من حيث التنظيم والجدية، يعود الأمل إلى الناشرين، حين يلتقون بجمهور لا يقرأ فحسب، بل يسائل، ويقارن، ويقتني.
هذا الحضور ليس فقط عددًا، بل هو نوع. من تلاميذ المدارس إلى الباحثين والمثقفين، ومن المهتمين بالشأن السياسي إلى المتعطشين للفكر والفلسفة، يمرّ الجميع من رواق إلى آخر، وكأنهم يستردون بذلك طقسًا ثقافيًا جماعيًا طالما شكّل أحد أسس الهوية المغربية.
في ركن آخر من أروقة المعرض، تتحدث أسماء الشريبي من مجموعة مكتبة المدارس، عن حيوية الاستقبال الذي تعرفه الكتب الموجهة للأطفال والعائلات. هنا لا تتعلق المسألة فقط بمحتوى الكتب، بل بوعي حقيقي بدور الناشر في تقديم بدائل قرائية تراعي القدرة الشرائية، دون التفريط في القيمة. من روايات المغامرة إلى الأساطير، ومن الثقافة العامة إلى القصص المصورة، تُبنى العلاقة بين الطفل والكتاب، في لحظة قد تكون حاسمة في تشكيل وعيه الأول بالعالم.
فبين مؤشرات التراجع وتوهّج الاستثناء، يقف الكتاب الورقي عند مفترق طرق: من جهة، واقع تقنيّ يفرض سيطرته، ومن جهة أخرى، مجتمعات لا تزال، ولو بتفاوت، تتمسك بالكلمة كمرآة للذات، لا كرفاه عابر.
المغرب، كما تكشفه هذه الشهادات، لا يزال يحتفظ بمكانه الخاص في خريطة القراءة العربية، لا بمعزل عن أزماتها، ولكن بفارق وعيٍ وحيوية في استقبال المعرفة، تجعله أكثر قدرة على ممانعة التبديد الثقافي.
إن الأزمة ليست فقط في تراجع المبيعات، أو انحسار عدد القرّاء، بل في نوعية العلاقة التي باتت تجمع القارئ العربي بالنص. لم يعد السؤال فقط: من يقرأ؟ بل: كيف يقرأ؟ وهل ما يُقرأ يترك أثرًا؟ في هذا السياق، تبدو القراءة فعلًا وجوديًا أكثر منها استهلاكًا، ولعل ما يجعل الورق لا يزال حاضرًا في المشهد، هو أن من اعتاد أن يقرأ بروحه لا بشاشته، لا يمكن أن يقتنع بأن المعرفة يمكن أن تكون وجبة سريعة.
ولأن القراءة ليست هواية، بل شغف وانضباط ومسار، فإن الكتاب الورقي سيظل، مهما تضاءلت حصته، حاملًا لتلك الخصوصية التي لا تُختصر في المحتوى، بل تتجلى في الطقس: لحظة العزلة مع الكتاب، صوت تقليب الصفحات، ومشهد القارئ وهو يُدوّن هامشًا أو يضع علامة.
أمام هذا الواقع المزدوج، بين رقمنة المعرفة ورغبة بعض الشعوب في البقاء أوفياء لما هو جوهري، يعود معرض المغرب الدولي للكتاب ليقول إن ما يزال هناك جمهور يبحث عن شيء لا تقدمه الخوارزميات: الدهشة، والنقاش، وإعادة التفكير في الإنسان من خلال الكلمة.