كشف الخبير الاقتصادي المغربي، نجيب أقصبي، عن التحديات التي واجهته بسبب مواقفه النقدية، موضحاً أن تمسكه بالتحليل الموضوعي والمنهجي حرمه من فرص مهنية كان يستحقها، قبل أن يقدم قراءة تحليلية معمقة للمشهد الاقتصادي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي قسمه إلى مرحلتين متمايزتين أسفرتا عن نتائج متباينة أثرت على بنية الاقتصاد المغربي لعقود.
استهل أقصبي حديثه بالإشارة إلى “المواجهات” التي كانت تقع بينه وبين مسؤولين في مؤسسات الدولة.
وأوضح أن طبيعة عملهم تفرض عليهم الدفاع عن الخطاب الرسمي، وهو ما كان يتعارض مع تحليلاته النقدية. ونتيجة لذلك، تعرض لما أسماه “مضايقات كبيرة”، لم تكن مباشرة بقدر ما كانت تتمثل في “حرمانه من إنجاز مهام معينة يستحقها ويمتلك الكفاءة لإنجازها”، حيث كانت تُسند لآخرين أكثر انسجاماً مع التوجهات الرسمية.
ورغم هذا “الغلق للأبواب”، أكد أقصبي أنه لم يكن يعاني شخصياً، بل كان يرى في الأمر تخفيفاً للمسؤولية، قائلاً: “كنت أقول لهم شكراً، لقد أعفيتموني”.
وأرجع صموده إلى انشغاله بمشاريعه الشخصية وعدم اعتماده على أي منصب رسمي، مشدداً على مبدأ أساسي في مسيرته: “لم يسبق لي أن طلبت شيئاً من السلطة، ولن أطلب”.
وأشار إلى أن ما يحميه هو شفافيته المطلقة، فما يقوله في العلن هو نفسه ما يقوله في المجالس الخاصة، مما ينزع عن خصومه عنصر المفاجأة.
لإضفاء الشرعية على مواقفه، يتبنى أقصبي منهجية صارمة تقوم على ركيزتين أساسيتين. الأولى هي التركيز على المؤسسات وليس الأشخاص، لأن “الإصلاح الحقيقي يجب أن يكون على صعيد المؤسسات، فتغيير الأشخاص دون تغيير البنى المؤسسية لا يجدي نفعاً”.
أما الركيزة الثانية، فهي الموضوعية والصرامة العلمية ، حيث يجب أن تكون كل كلمة وكل تحليل مستنداً إلى وقائع وأدلة ومراجع، لا مجرد كلام مرسل. ويعتقد أقصبي أن هذا المنهج “يجبر حتى الأعداء على احترامك، حتى وإن كانوا لا يتفقون مع أطروحاتك”.
طبق أقصبي منهجيته هذه في تحليل حقبة حكم الملك الحسن الثاني (1961-1999)، مقسماً إياها إلى فترتين مدة كل منهما 20 عاماً.
الفترة الأولى (الستينات والسبعينات): تميزت هذه المرحلة بهيمنة الدولة على الاقتصاد. ورغم وجود خطاب ليبرالي نظري، كان الواقع يكرس “تدخل الدولة” من خلال قطاع عام قوي، وقطاع مؤمم مهم، وسياسات حمائية تجاه الخارج.
الفترة الثانية (الثمانينات والتسعينات): شهدت هذه الفترة تحولاً جذرياً نحو سياسات التقويم الهيكلي، التحرير، الانفتاح، الخوصصة، والعولمة. لكن هذا التحول لم يكن سلساً، بل وصفه أقصبي بأنه “مرحلة انتقالية لم يمت فيها الماضي بعد، ولم يولد فيها المستقبل”، مستعيراً مقولة شهيرة تفيد بأن هذه الفترات الحرجة بين “القديم الذي يحتضر والجديد الذي لم يولد” هي التي تظهر فيها “العفاريت” أو المسوخ (Les monstres).
واعتبر أقصبي أن عقد الثمانينات كان “عقداً خاسراً” باعتراف البنك الدولي نفسه. أما عقد التسعينات، فقد اتسم بأجواء “نهاية الحكم” (Fin de règne)، حيث كان انشغال الملك الراحل الأساسي هو التحضير لمرحلة ما بعده. وقد انعكس ذلك سلباً على الاقتصاد الذي عانى من سنوات جفاف متتالية، و”تحرير عشوائي”، و”خوصصة غير مدروسة” أنتجت كوارث اقتصادية ما زال المغرب يدفع ثمنها حتى اليوم، وضرب مثالاً بملف شركة “لاسامير”.
وخلص الخبير الاقتصادي إلى أن نتيجة هذه السياسات غير المخطط لها كانت “سيئة” على الاقتصاد المغربي، وكرست واقع “مغربين” الذي تحدثت عنه تقارير دولية في تلك الفترة: “مغرب المدن، ومغرب العالم القروي الذي كان يعيش في الظلمات”، محروماً من أبسط مقومات الحياة كالكهرباء والماء الصالح للشرب والطرق.