وسط حديثه المتدفق، يستحضر عبد الفتاح بغداد بداياته في عالم الفن، حين قادته الصدفة إلى خشبة المسرح بدفع من أصدقاء آمنوا بموهبته.
انطلقت رحلته من مركز خدمات الشباب بحي المسيرة، حيث تدرج في الورشات المسرحية، واكتشف نفسه في هذا الفضاء التعبيري الذي سيصبح لاحقًا بوابةً لبناء شخصيته وحياته.
لم يكن الطريق معبدًا. يصف بغداد مساره بالفني “المكافح”، مشيرًا إلى أن السياق لم يكن يشبه ما يعيشه الشباب اليوم في زمن الانستغرام وتطبيقات الشهرة السريعة. كانت البدايات مطبوعة بالاجتهاد، والتكوين الذاتي، والاستفادة من مرافقة خريجي المعهد العالي للفن والتنشيط الثقافي، حيث اكتسب تجربة متواضعة لكنها صلبة.
ويؤكد أن المسرح لم يكن مجرد فن بالنسبة إليه، بل كان مدرسة للحياة، ساعده في تجاوز طباعه الشخصية، ومنحه ثقةً في النفس، قائلاً: “أشكر المسرح لأنه ساعدني في بناء ذاتي”. يعدد أسماء فنانين ومدربين رافقوه في هذه الرحلة، ويخص بالذكر المهدي بوخريص، وسليمان الرمزي، وعددًا من الرواد الذين كانوا سندًا في بداية المسار.
من لحظات التأثير القوية في حياته، يستحضر لحظة صعوده على خشبة المسرح في فاس سنة 2013، بحضور والده الذي همس له بعد العرض: “ولدي، هادي هي حرفتك”. جملةٌ حفرت بداخله مسارًا جديدًا وجعلته يقرر الاستمرار رغم الصعوبات التي واجهها في فضاءات الشباب والثقافة، حيث كان يسمع مرارًا عبارات التثبيط: “شنو غتدير بهاد التخربيق؟”.
رغم ذلك، ظل متمسكًا بطموحه. ويؤمن بأن المسرح يجب أن يكون حاضرًا في المؤسسات التعليمية، من التعليم الأولي إلى الثانوي، لأنه وسيلة لدمج الشباب في الصناعات الثقافية وخلق فرص الشغل. يرى أن تغيير النظرة النمطية تجاه المهنة الفنية ضرورة، خاصة في مجتمع لا زال يربطها بالهشاشة.
في حديثه عن المسرحية التي شارك فيها مؤخرًا “ح شكون حنا”، يوضح أنها جاءت من فكرة بسيطة مستوحاة من لحظة الفرح الجماعي عقب إنجاز المنتخب الوطني في المونديال. يقول إن تلك اللحظات أظهرت تلاحم المغاربة، ومنحتهم قوة تجاوزت الأزمات، وهو ما ألهم فريق العمل لإسقاط هذه الروح على أسرة مغربية كانت على وشك الانهيار، لتكون كرة القدم والفرح الجماعي سببًا في لمّ شتاتها من جديد.
ويضيف أن المسرحية لقيت صدى إيجابيًا، خصوصًا لدى النساء، مبرزًا أهمية أن تتناول الأعمال الفنية قضايا المجتمع بروح معاصرة، بعيدًا عن النظرة النمطية للمرأة والفن. يدعو إلى انفتاح المؤسسات الثقافية والسياحية على بعضها، لأن الصناعة الثقافية أصبحت رافعة اقتصادية في دول عديدة، ويؤمن بأن المغرب يتوفر على بنية تحتية تؤهله لذلك.
ويشدد على أهمية دور الفنانين في هذا الورش، معتبرًا أن الجميع معني، وأن التحديات التنظيمية الكبرى التي تنتظر المغرب تستدعي تعبئة وطنية شاملة. يتحدث بثقة عن مساهمة الشباب، وعن تحسن ملحوظ في تدبير القطاع الثقافي، لكنه لا يخفي أسفه على ما عاشه جيله من عراقيل كان يمكن تجاوزها لو وُضعت الثقة في الشباب منذ البداية.
يتحدث بغداد عن “جواز الشباب” كمبادرة تستحق الإشادة، معتبرًا أنها ساهمت في فتح آفاق التكوين والتجوال الثقافي أمام فئات واسعة، ويشدد على ضرورة استمرارية البرامج الناجحة بغض النظر عن الانتماءات السياسية، فالمغرب، في نظره، يحتاج إلى روح جماعية تنهض بالمجال.
أما على مستوى التلفزيون، فقد شارك في أعمال مثل “أحلام بنات”، و”صلاح وفاتي”، ويثمن تجربة التعاون مع فنانين مثل طاليس، ويؤكد أن أعمالًا مثل هذه تقدم رسائل اجتماعية ضمن قالب كوميدي بسيط وسلس. ويعبر عن أمله في أن يستمر الإنتاج الفني طيلة السنة لا أن ينحصر في رمضان فقط.
يرى بغداد أن الكتابة الواقعية هي ما يحتاجه المشهد الفني اليوم، بعيدًا عن منطق “البوز”، كما يؤمن بأن الصناعة الثقافية قادرة على خلق فرص شغل إذا تم الاستثمار الحقيقي فيها، بمشاركة فعالة من الفنانين الشباب.
ويختم حديثه بمشروعه المسرحي الجديد “لافي موروكو”، وهي مونودراما تتناول علاقة المواطن المغربي بالتحولات التي يعرفها البلد والعالم، مشيرًا إلى أن الطفولة الرقمية اليوم تستحق أعمالًا جادة تُدمجها في العالم الحديث دون قطع مع جذور الطفولة التقليدية.