الرجل الذي حلّ بالمغرب الأحد المنصرم وألقي محاضرة حول الأسواق الناهضة في الاقتصاد العالمي، ليس مجرّد مقيم سابق في البيت الأبيض بالعاصمة الأمريكية واشنطن، ورئيس سابق لأكبر قوة سياسية وعسكرية واقتصادية عرفها تاريخ البشرية، بل أكثر من ذلك، هو صديق، وصديق خاص لحكّام المغرب، لدرجة نُسجت معها الكثير من الروايات والقصص حول أسرار علاقات «آل كلينتون» والأسرة العلوية. فالرجل صاحب الشعر الأبيض والذي قضى في رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ولايتين اثنتين خلفه بعدهما سيّء الذكّر جورج بوش الابن، كان الشخصية التي سرقت الأضواء من قبل الجنازة المهيبة للملك الراحل الحسن الثاني، رغم غلبة مشاعر الحزن والأسى والبكاء الجماعي يومها. وهذا الرجل ليس سوى زوج المرأة الأولى في الدبلوماسية الأمريكية إلى حدود الأيام القليلة الماضية. المرأة التي ألبسها الملك الحسن الثاني القفطان المغربي وظلّت منذ ذلك الحين وفيّة لذكرياتها الجميلة في المغرب. البداية في التسعينيات نبتت بذور علاقة كبيرة واستثنائية بين ساكني القصر الملكي بالرباط وآل كلينتون في السنوات الأولى للتسعينيات، حين كان بيل كلينتون رئيسا شابا للقوة السياسية الأولى عالميا، وكان أحد أكثر الملفات تعقيدا وحساسية التي وجدها فوق مكتبه، ملف الصراع العربي الفلسطيني وامتداداته الأمنية والاستراتيجية في العالم. مشكلة وجد كلينتون في الملك الراحل الحسن الثاني خير معين ووسيط في لحظات اشتداد الأزمات وارتفاع التوتّر في منطقة الشرق الأوسط. علاقات الملك الراحل الوطيدة والمتشعبة مع بعض الأوساط اليهودية خاصة اللوبي القوي في واشنطن، وكلمته المسموعة لدى الراحل ياسر عرفات والعاهل الأردني الراحل الحسين بن طلال، مؤهلات جعلت علاقة الرئيس الأمريكي حينها تتوطد مع الملك الراحل، ليتجسّد التقدير المتبادل في الزيارة التاريخية التي كان الملك الراحل قد قام بها إلى الديار الأمريكية عام 1995، وحظي خلالها باستقبال استثنائي في البيت الأبيض ألقى خلاله خطابا إلى جانب الرئيس الأمريكي. فيما كانت تلك الزيارة مناسبة اكتشاف الملك الراحل مرضه الذي سيموت جراء تداعياته. ولأن قيمة ومكانة الشخصيات الكبيرة والعظيمة، لا تتأكد إلا في مراسيم تشييع جنائزها. وحينها فقط، يظهر ما إن كان تقديرهم وتعظيمهم كان مرتبطا بقوتهم وقوة حضورهم، أم لمكانة حقيقية لدى الآخرين. زعماء ورؤساء العالم حجّوا عن بكرة أبيهم إلى المغرب بمجرد ما أعلنت وفاة ملكه الحسن الثاني. الرئيس الأمريكي حينها، بيل كلينتون، قطع حملة لجمع التبرعات استعدادا لحملته الانتخابية، وغادر ولاية كولورادو على وجه السرعة لحضور مراسيم الجنازة. ووصل كلينتون إلى الرباط رفقة سلفه جورج بوش واثنين من كبار الوزراء السابقين للولايات المتحدة الأمريكية، واللذان ارتبط اسمهما بمسلسل السلام في الشرق الأوسط، جيمس وولكر ووارين كريستوفر. فيما مثّل الرئيس جاك شيراك الجمهورية الفرنسية، وهو آخر من استقبل الحسن الثاني وكرّمه في العاصمة الفرنسية باريس. بينما رافق الأمير البريطاني شارلز، وزير خارجية المملكة المتحدة في تلك الجنازة المهيبة. الحرس الخاص بالرئيس الأمريكي نبهه إلى عدم إمكانية حمايته على طول الكيلومترات الفاصلة بين القصر الملكي وضريح محمد الخامس، ودعوه بالتالي إلى عدم السير في تلك الجنازة. لكن بيل كلينتون أخلى مسؤولية حراسه، وأعلن تحمله شخصيا مسؤولية سلامته الأمنية، ومشى في الجنازة وسط ملايين المغاربة المصدومين الباكين. وإلى جانب كلينتون، مشى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، فيما حرصت إسرائيل على حضور كل من رئيس حكومتها إيهود باراك، ووزير خارجيتها دافيد ليفي، ورئيسها الحالي شمعون بيريز. وكان الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة أول المسؤولين الأجانب الذين وصلوا إلى الرباط، في عز قطع العلاقات وإغلاق الحدود بين البلدين. هيلاري «تهرب» إلى المغرب قناة «ناشيونال جيوغرافيك» الشهيرة، عرضت مؤخرا وثائقيا يحكي فيه حراس الرئيس الأمريكي السابق كواليس مهمتهم الاستثنائية في جنازة الحسن الثاني. روبرت رودريغيث، الذي كان يتولى رئاسة الحرس الخاص بكلينتون، قال إن هذا الأخير كان سيقوم بزيارة إلى إحدى الولايات الأمريكية، «وعلم بخبر وفاة الملك الحسن الثاني الذي كان يحترمه، فقرر مباشرة تغيير وجهة الطائرة نحو المغرب». ويظهر كلينتون شخصيا في الشريط، ويقول إنه وفور علمه بخبر وفاة الملك الحسن الثاني، «كنت أرغب في حضور مراسم الجنازة كاملة وكنت أدرك الصعوبات الأمنية». صعوبات قال رودريغيث إنها تتمثل في كونها كانت المرة الأولى التي «يحضر فيها رئيس أمريكي جنازة أو حدث ما دون أن يقوم الحرس الرئاسي وباقي الأجهزة بدراسة مسبقة للخطة الأمنية، أي مراقبة الطريق بالكامل والنوافذ ومنافذ الهرب في حالة وقوع شيء ما». وزاد من تعقيد المهمة حينها، بداية تصاعد تهديدات تنظيم القاعدة للمسؤولين الأمريكيين، ووجود قرابة مليوني شخص في تلك الجنازة «الأمر الذي كان يجعلنا في موقف تحدي حقيقي». العلاقة الوطيدة لم تكن تجمع بين الملك الراحل وبيل كلينتون فقط، بل إن الأمر كان عائليا أكثر منه شخصيا، وكبريات الصحف والمجلات الأمريكية تحتفظ في أرشيفاتها بتفاصيل تلك الزيارة الخاصة التي قامت بها هيلاري كلينتون، زوجة بيل، إلى المغرب، ليحفّها الملك الراحل بعناية استثنائية جعلتها ترتبط بالمغرب بشكل كبير. فشهور قليلة قبل وفاته، وتحديدا في شهر أبريل من العام 1999، كان الملك الراحل يستقبل زوجة الرئيس الأمريكي في مكتبه الشخصي بالقصر الملكي بالرباط. هناك تقول الصحف الأمريكية التي كتبت عن الزيارة، إن الملك الراحل أسهب في تعريف ضيفته الأمريكية الساعية إلى الهروب من ملاحقات الإعلام الأمريكي لها بعد تفجّر فضيحة علاقة زوجها الرئيس بمونيكا لونسكي، بالمغرب وثقافته وتاريخه ونمط عيشه، لدرجة أن الحسن الثاني راح يحدّث هيلاري كلينتون عن العمران المغربي والنقوش والزخارف التي تزيّن مكتبه، حيث شرح لها كيف أن فن المعمار المغربي يميل نحو رسم أقواس وأشكال هندسية كبيرة، حتى تعطي الانطباع بسعة الفضاء ورحابته. وحين حدّث الحسن الثاني ضيفته عن الفرق بين أنظمة التعليم في المغرب وأمريكا، وقال لها إن الوضع عندنا يجمع بين تلقين المعارف والتربية، بينما عندهم يقتصر على تلقي المعارف؛ تساءلت هيلاري كلينتون لماذا لم يقم الملك الراحل بتأليف كتاب يترجم إلى لغات العالم حتى يستفيد الجميع من ثقافته. وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كانت في إطار جولة، ظاهرها العمل، وباطنها تجنّب أضواء الإعلام الأمريكي. فبدأت من مصر حيث تحدّثت عن التعايش المسيحي الإسلامي من خلال القبطيين الموجودين هناك، ثم عرّجت على تونس حيث انتقدت المتشددين الإسلاميين الذين قالت إنهم يقمعون النساء ويحرمونهن من حرياتهن. قبل أن تلبي دعوة الملك الراحل وتحلّ بالمغرب. زيارة لم تبق حبيسة الجدران العالية للقصر الملكي، بل إن الحسن الثاني وبعدما أنهى حديثه المطوّل مع زوجة صديقه الرئيس الأمريكي، اقترح عليها الانتقال إلى جنوب شرق المملكة، حيث الكثبان الدافئة والمناظر الخلابة. اقتراح، استجابت له هيلاري كلينتون، ويحتفظ أرشيف جريدة «واشنطن بوست» بتفاصيل الجولة التي قامت بها الضيفة الأمريكية بين جبال الأطلس وانصهرت في البيئة المحلية لمنطقة مرزوكة حيث ارتدت الزي الصحراوي وركبت الجمال وأقامت في خيمة واستمتعت رفقة بنتها تشيلسي، بعدما كانتا قد حظيتا باحتفاء كبير وحفاوة من طرف الأميرة للا مريم في قصر مراكش. الزفاف بعد الجنازة عهد الملك محمد السادس لم يكن استثناء وحافظ على هذه العلاقة الوطيدة والخاصة. فيما كانت إحدى أولى اللقاءات قد تمت في العام 2000، أي بعد شهور قليلة من رحيل الملك الحسن الثاني. استقبال خاص حظي به الملك محمد السادس رفقة شقيقته للا مريم في البيت الأبيض، حيث تتحدّث الصحافة الأمريكية عن أحد أكبر حفلات العشاء التي احتضنها مقر إقامة الرئيس الأمريكي. وتسرد ما تضمّنه من صنوف المأكولات كسلطة السالمون و«القوق» و«طماطم كازباشو»، أما الطبق الرئيسي، فتشكّل أساسا من أكلة لحم الغنمي مرفوقا بالفاصوليا الخضراء وجبن المعز والبطاطس، تلاه تقديم حلويات معدة بعسل زهور الحوامض المغربي وثمور «المجهول» الآتية من واحات جنوب المغرب واللوز السوسي الأصيل… وفي أثناء الحفل أهدى الملك للرئيس كلينتون خنجرا ذهبيا مرصعا بالماس والياقوت، بينما أهدت الأميرة للا مريم لزوجته هيلاري مزهرية من الطين الأبيض الرفيع مكسوة بالذهب الخالص. في صيف العام 2002، كان الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وزوجته وبنتهما تشيلسي، أبرز ضيوف حفل زفاف الملك محمد السادس والأميرة للا سلمى. في المقابل، وتأكيدا لاستمرار قوة هذه العلاقات ومتانتها، تزامنت زيارة خاصة قام بها الملك محمد السادس للديار الأمريكية عام 2010، مع حفل زفاف تشيلسي كلينتون. زفاف قالت الصحف الأمريكية إن هيلاري كلينتون حرصت على وضع بعض اللمسات المغربية عليه، حيث قامت باستيراد كميات من الورود التي كانت قد رأتها خلال جولتها في المغرب العميق، تكريسا لإعجابها بالمغرب وثقافته. إعجاب عكسته بعض مظاهر السياسة الخارجية الأمريكية في عهد هيلاري كلينتون، فوسط تحفظ فرنسي في الكواليس الدبلوماسية، واحتجاج شعبي تمثله لجنة مناهضة «منتدى المستقبل»، وبحضور مميز لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، انعقدت في نونبر 2009 بمراكش أشغال الدورة السادسة لـ»منتدى المستقبل»، بعد خمس سنوات من احتضان المغرب الدورة التأسيسية لهذا المنتدى المثير للجدل. فهذه الدورة التي ترأسها المغرب رفقة إيطاليا، باعتبارها الرئيس الدوري لمجموعة الدول الثمانية، كانت بضجيج أضعف واحتجاجات أقل حدة ودعاية إعلامية أكثر خفوتا، مع هيمنة الحضور الأمريكي المتمثل في هيلاري كلينتون على أشغال المنتدى؛ رغم ما يمثله انعقاد هذا المؤتمر الدولي، من عودة للمغرب إلى واجهة الدبلوماسية الدولية، بعد سنوات من الانسحاب غير المعلن من الملفات الشائكة في المنطقة العربية. قبل أسابيع قليل من رحيلها عن الإدارة الأمريكية، استقبلت هيلاري كلينتون وفدا مغربيا كبيرا تشكل من نحو 50 عضوا، يتقدّمهم وزير الخارجية والتعاون سعدالدين العثماني، حيث أعطيت انطلاقة الحوار الاستراتيجي بين البلدين. ويُعتبر الحدث سابقة من نوعها في العلاقات الأمريكية مع بلد عربي إفريقي، حيث يعتبر «الحوار الاستراتيجي» أداة للتنسيق والتقارب، تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية مع الدول ذات الأهمية الخاصة بالنسبة إلى المصالح الأمريكية، والتي تسعى واشنطن إلى ربطها أكثر بمصالحها واستراتيجياتها الاقتصادية والعسكرية والتنموية. وقبل شهور قليلة، تحوّلت البقعة الأرضية المخصصة لبناء المقر الجديد للسفارة الأمريكية، والموجودة في أفخم أحياء العاصمة الرباط، إلى وجهة للدولة المغربية التي انتقل مسؤولوها المدنيون والعسكريون، الحكوميون وغير الحكوميين، عن بكرة أبيهم إليها للمشاركة في حفل إعطاء انطلاق أشغال بناء المقرّ الجديد لسفارة أقوى دولة في العالم، وبحضور أقوى امرأة فيها، وزير الخارجية هيلاري كلينتون. المستشار الملكي الطيب الفاسي الفهري، والجنرال حسني بنسليمان، ووزراء حكومة بنكيران، بدءا بوزير الخارجية سعدالدين العثماني ووصولا إلى وزير الاتصال مصطفى الخلفي، مرورا بوزير الداخلية امحند العنصر ووزير الفلاحة عزيز أخنوش… كلّهم كانوا في الموعد المحدد لانطلاق الحفل. وصية كلينتون هيلاري كلينتون، وقبل أن تحمل أداة الحفر اليدوية هي وسعدالدين العثماني، ويحملان فيها كمية من التراب كدلالة رمزية على انطلاق الأشغال، قالت إن المغرب ليس فقط، أول دولة اعترفت بالولايات المتحدة الأمريكية قبل قرنين، بل إن أول عقار امتلكته دولتها خارج ترابها كان هدية من سلطان المغرب عام 1820، ويوجد بمدينة طنجة حيث قالت إنه مازال صامدا ومعبرا عن عمق علاقات البلدين، وهو المركز الثقافي الأمريكي حاليا في طنجة. ولم تخل كلمة الدبلوماسية الأولى في دولة أوباما، من إشارات سياسية، حيث قالت إن انتخابات 25 نونبر الماضي كانت إشارة قوية من المغرب، تعبر عن التزامه بالمضي نحو التحول الديمقراطي، لكنها استدركت بالقول إنها «رحلة طويلة تلك التي تقومون بها، لكن الولايات المتحدة الأمريكية ستقف إلى جانبكم ونحن لا نفاجأ حين نعلم أن مشاكل كثيرة تواجهكم في هذه الرحلة، بل نعلم أن عملا شاقا يجب عليكم القيام به، ونحن سنساعدكم لتحقيقه».
آل كلينتون والعلويون: قصة حب متبادل
الوجه الاخر