نفى وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، وجود أي صراع أيديولوجي بين التيارين الحداثي والمحافظ حول مراجعة مدونة الأسرة، مؤكدًا أن النقاش الدائر اليوم في المغرب حول قضايا الأسرة هو نقاش طبيعي ومشروع في مجتمع تعددي، مشددًا في الوقت ذاته على أن التشريع لن يكون خاضعًا لأي إملاءات خارجية، بل سيكون ثمرة توافق مجتمعي متدرج يحترم الخصوصية الدينية والثقافية للمغاربة.
وأكد وهبي، في كلمة له خلال ندوة دولية نظمت بالرباط حول نظام “الكد والسعاية”، بحضور شخصيات وطنية ودولية من بينها ممثل جامعة الأزهر، والرئيس الأول لمحكمة النقض، ووزيرة العدل بجمهورية كابو فيردي، وعدد من الخبراء والقضاة من العالم العربي، أن مدونة الأسرة الجديدة لن تكون محل فتنة أو استقطاب، بل ستكون تعبيرًا عن توازن مغربي دقيق بين مقومات الهوية الوطنية ومتطلبات العدالة الاجتماعية، مشيرًا إلى أن النقاش حول بنود المدونة يتم بكثير من الاحترام والرصانة، وأن المشرّع لا ينفرد بالحسم فيها، بل يحتكم إلى تفاعل المجتمع ومؤسساته، تحت سقف المرجعية الدستورية والدينية.
واعتبر الوزير أن المدونة تمثل نقطة التقاء بين رؤيتين مختلفتين حول مفهوم المصلحة، الأولى تتمسك بالإبقاء على الموروث كاملاً، والثانية تدعو إلى تغييره كليًا، مشددًا على أن المطلوب اليوم ليس الاصطفاف، بل إيجاد حلول وسطية تُنصف المرأة وتكرّس الإنصاف دون المساس بثوابت الدين أو وحدة المجتمع.
وأوضح أن الأمور الدينية تظل مجالًا حساسًا بالمغرب، نظرًا لكونه مجالًا محفوظًا للملك بصفته أمير المؤمنين، وأن المجلس العلمي الأعلى لا يصدر الفتوى إلا بطلب منه، وهو ما يضمن وحدة المرجعية الدينية بعيدًا عن الفوضى أو التسييس، مشيرًا إلى أن أعضاء المجلس يتسمون بقدر كبير من الانفتاح والاجتهاد القائم على المصلحة العامة وشرع الله.
وفيما يتعلق بقضية “الكد والسعاية”، شدد وهبي على ضرورة تثمين مجهودات المرأة داخل مؤسسة الزواج والاعتراف بدورها في بناء الثروة الأسرية، موضحًا أن الحديث عن المودة والرحمة لا يمكن أن يكون بديلاً عن إقرار الحقوق، وأن على التشريع أن يُترجم هذه المبادئ إلى آليات عملية تضمن للمرأة الإنصاف.
كما أعاد التذكير بأن مواقفه السابقة ليست تعبيرًا عن اجتهاد شخصي، بل تمثل موقفًا رسميًا تسعى الوزارة إلى بلورته في صيغ قانونية عادلة، متوقفًا عند إشكالات مثل حق المرأة في الحيازة بعد وفاة الزوج، وقضية “العصبة” التي عولجت باجتهاد فقهي من خلال “الوصية الواجبة بالحيازة الحكمية”.
وبخصوص قضايا الحضانة، طرح الوزير تساؤلات عدة حول القيود المفروضة على المرأة المطلقة الحاضنة، وحقها في الزواج والتنقل والسفر مع أبنائها، منتقدًا النصوص التي تمنعها من ذلك بشكل غير عادل، ومشيرًا إلى غياب أدوات قانونية فعالة تضمن حقوقها العملية، مثل إصدار جوازات السفر أو التنقيل المدرسي للأطفال دون تعقيدات إدارية.
وفي ما يخص الالتزامات الدولية للمغرب، أكد وهبي أن المملكة تحترم تعهداتها، لكنها في الوقت نفسه لا تخضع لرؤى خارجية قد لا تنسجم مع خصوصياتها، موضحًا أنه أبلغ شركاء أوروبيين خلال لقاءات رسمية أن المغرب له تصوره الخاص للأسرة ينبع من تاريخه وثقافته ودينه، وهو ما يجب احترامه دون فرض أي تصورات بديلة.
وأشار الوزير إلى أن التحدي اليوم يتمثل في إنتاج قانون أسري جديد يستفيد منه الجميع، دون إثارة التوترات أو استيراد نماذج جاهزة، داعيًا إلى التمسك بمبدأ “الوسطية” في صياغة هذا الإطار التشريعي، تمامًا كما هو مطلوب في الدين والسياسة والاقتصاد.
وأكد أن هذا المنهج المتوازن هو ما سيحافظ على الاستقرار المجتمعي، ويمنح المرأة المغربية المكانة التي تستحقها، بعيدًا عن منطق الإقصاء أو الاستفزاز أو المزايدة.
وختم الوزير مداخلته بالتأكيد على أن مشروع المدونة الجديد ليس نهاية المطاف، بل خطوة أولى في مسار طويل نحو عدالة أسرية شاملة، معتبرا أن ما ستفرزه المرحلة المقبلة يجب أن يكون تعبيرًا عن المجتمع المغربي بكل مكوناته، محافظًا كان أو منفتحًا، لأن التشريع ليس نتاج الإرادة السياسية فقط، بل مرآة لقيم المجتمع وأولوياته.